فصل: تفسير الآيات رقم (7- 8)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏7‏)‏ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

ولما ذكر أموال اليتامى على حسب ما دعت إليه الحاجة واقتضاه التناسب إلى أن ختم بهذه الآية، كان كأن سائلاً سأل‏:‏ من أين تكون أموالهم؛ فبين ذلك بطريق الإجمال بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏للرجال‏}‏ أي الذكور من أولاد الميت وأقربائه، ولعله عبر بذلك دون الذكور لأنهم كانوا لا يورثون الصغار، ويخصون الإرث بما عمر الديار، فنبه سبحانه على أن العلة النطفة ‏{‏نصيب‏}‏ أي منهم معلوم ‏{‏مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏‏.‏

ولما كانوا لا يورثون النساء قال‏:‏ ‏{‏وللنساء نصيب‏}‏ ولقصد التصريح للتأكيد قال موضع «مما تركوا»‏:‏ ‏{‏مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ مشيراً إلى أنه لا فرق بينهن وبين الرجال في القرب الذي هو سبب الإرث، ثم زاد الأمر تأكيداً وتصريحاً بقوله إبدالاً مما قبله بتكرير العامل‏:‏ ‏{‏مما قل منه أو كثر‏}‏ ثم عرف بأن ذلك على وجه الحتم الذي لا بد منه، فقال مبيناً للاعتناء به بقطعه عن الأول بالنصب على الاختصاص بتقدير أعني‏:‏ ‏{‏نصيباً مفروضاً *‏}‏ أي مقدراً واجباً مبيناً، وهذه الآية مجملة بينتها آية المواريث، وبالآية علم أنها خاصة بالعصبات من التعبير بالفرض لأن الإجماع- كما نقله الأصبهاني عن الرازي- على أنه ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر‏.‏

ولما بين المفروض أتبعه المندوب فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حضر القسمة أولوا القربى‏}‏ أي ممن لا يرث صغاراً أو كباراً ‏{‏واليتامى والمساكين‏}‏ أي قرباء أو غرباء ‏{‏فارزقوهم منه‏}‏ أي المتروك، وهو أمر ندب لتطييب قلوبهم، وقرينة صرفه عن الوجوب ترك التحديد ‏{‏وقولوا لهم‏}‏ أي مع الإعطاء ‏{‏قولاً معروفاً *‏}‏ أي حسناً سائغاً في الشرع مقبولاً تطيب به نفوسهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

ولما أعاد الوصية باليتامى مرة بعد أخرى، وختم بالأمر بالإنة القول، وكان للتصوير في التأثير في النفس ما ليس لغيره؛ أعاد الوصية بهم لضعفهم مصوراً لحالهم مبيناً أن القول المعروف هو الصواب الذي لا خلل فيه فقال‏:‏ ‏{‏وليخش‏}‏ أي يوقع الخشية على ذرية غيرهم ‏{‏الذين‏}‏ وذكر لهم حالاً هو جدير بإيقاع الخشية في قلوبهم فقال‏:‏ ‏{‏لو تركوا‏}‏ أي شارفوا الترك بموت أو هرم، وصوّر حالهم وحققه بقوله‏:‏ ‏{‏من خلفهم‏}‏ أي بعد موتهم أو عجزهم العجز الذي هو كموتهم ‏{‏ذرية‏}‏ أي أولاداً من ذكور أو إناث ‏{‏ضعافاً‏}‏ أي لصغر أو غيره ‏{‏خافوا عليهم‏}‏ أي جور الجائرين‏.‏

ولما تسبب عن ذلك التصور في أنفسهم خوفهم على ذرية غيرهم كما يخافون على ذريتهم سواء كانوا أوصياء أو أولياء أو أجانب، وكان هذا الخوف ربما أداهم في قصد نفعهم إلى جور على غيرهم؛ أمر بما يحفظهم على الصراط السوي بقوله‏:‏ ‏{‏فليتقوا‏}‏ وعبر بالاسم الأعظم إرشاداً إلى استحضار جميع عظمته فقال‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي فليعدلوا في أمرهم ليقيِّض الله لهم من يعدل في ذريتهم، وإلا أوشك أن يسلط على ذريتهم من يجور عليهم ‏{‏وليقولوا‏}‏ أي في ذلك وغيره ‏{‏قولاً سديداً *‏}‏ أي عدلاً قاصداً صواباً، ليدل هذا الظاهر على صلاح ما أتمره من الباطن‏.‏

ولما طال التحذير والزجر والتهويل في شأن اليتامى، وكان ذلك ربما أوجب النفرة من مخالطتهم رأساً فتضيع مصالحهم؛ وصل بذلك ما بين أن ذلك خاص بالظالم في سياق موجب لزيادة التحذير فقال مؤكداً لما كان قد رسخ في نفوسهم من الاستهانة بأموالهم‏:‏ ‏{‏إن الذين‏}‏ ولما كان الأكل أعظم مقاصد الإنسان عبر به عن جميع الأغراض فقال‏:‏ ‏{‏يأكلون أموال اليتامى ظلماَ‏}‏ أي أكلاً هو في غير موضعه بغير دليل يدل عليه، فهو كفعل من يمشي في الظلام، ثم أتبعه ما زاده تأكيداً بالتحذير في سياق الحصر فقال‏:‏ ‏{‏إنما يأكلون‏}‏ أي في الحال وصور الأكل وحققه بقوله‏:‏ ‏{‏في بطونهم ناراً‏}‏ أي تحرق المعاني الباطنية التي تكون بها قوام الإنسانية وبين أنها على حقيقتها في الدنيا ولكنا لا نحسها الآن لأنها غير النار المعهودة في الظاهر بقوله- مكرراً التحذير مبيناً بقراءة الجماعة بالبناء للفاعل أنهم يلجؤون إليها إلجاء يصيّرهم كأنهم يدخلونها بأنفسهم‏:‏ ‏{‏وسيصلون‏}‏ أي في الآخرة- بوعيد حتم لا خلف فيه ‏{‏سعيراً *‏}‏ أي عظيماً هو نهاية في العظمة، وذلك هو معنى ابن عامر وعاصم بالبناء للمجهول، أي يلجئهم إلى صليها ملجئ قاهر لا يقدرون على نوع دفاع له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

ولما تم ذلك تشوفت النفوس إلى بيان مقادير الاستحقاق بالإرث لكل واحد، وكان قد تقدم ذكر استحقاق الرجال والنساء من غير تقييد يتيم، فاقتضت البلاغة بيان أصول جميع المواريث، وشفاء العليل بإيضاح أمرها، فقال- مستأنفاً في جواب من كأنه سأل عن ذلك مؤكداً لما أمر به منها غاية التأكيد مشيراً إلى عظمة هذا العلم بالتقدم في الإيصاء في أول آياته، والتحذير من الضلال في آخرها، ورغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نصف العلم، وحذر من إضاعته بأنه أول علم ينزع من الأمة‏:‏ ‏{‏يوصيكم الله‏}‏ أي بما له من العظمة الكاملة والحكمة البالغة، وبدأ بالأولاد لأن تعلق الإنسان بهم أشد فقال‏:‏ ‏{‏في أولادكم‏}‏ أي إذا مات مورثهم‏.‏

ولما كان هذا مجملاً كان بحيث يطلب تفسيره، فقال جواباً لذلك بادئاً بالأشرف بياناً لفضله بالتقديم وجعله أصلاً والتفضيل‏:‏ ‏{‏للذكر‏}‏ أي منهم إذا كان معه شيء من الإناث، ولم يمنعه مانع من قتل ولا مخالفة دين ونحوه ‏{‏مثل حظ الأنثيين‏}‏ أي نصيب من شأنه أن يغني ويسعد، وهو الثلثان، إذا انفردتا فللواحدة معه الثلث، فأثبت سبحانه للإناث حظاً تغليظاَ لهم من منعهن مطلقاً، ونقصهن عن نصيب الرجال تعريضاً بأنهم أصابوا في نفس الحكم بانزالهن عن درجة الرجال‏.‏

ولما بان سهم الذكر مع الأنثى بعبارة النص، واشعر ذلك بأن لهن إرثاً في الجملة وعند الاجتماع مع الذكر، وفُهم بحسب إشارة النص وهي ما ثبت بنظمه، لكنه غير مقصود، ولا سبق له النص- حكم الأنثيين إذا لم يكن معهن ذكر، وهو أن لهما الثلثين، وكان ذلك أيضاً مفهماً لأن الواحدة غذا كان لها مع الأخ الثلث كان لها ذلك مع الأخت إذا لم يكن ثمَّ ذكر من باب الأولى، فاقتضى ذلك أنهن إذا كن ثلاثاً أو أكثر ليس معهم ذكر استغرقن التركة، وإن كانت واحدة ليس معها ذكر لم تزد على الثلث؛ بين أن الأمر ليس كذلك- كما تقدم- بقوله مبيناً إرثهن حال الانفراد‏:‏ ‏{‏فإن كن‏}‏ أي الوارثات ‏{‏نساء‏}‏ أي إناثاً‏.‏

ولما كان ذلك قد يحمل على أقل الجمع، وهو اثنتان حقيقة أو مجازاً حقق ونفى هذا الاحتمال بقوله‏:‏ ‏{‏فوق اثنتين‏}‏ أي لا ذكر معهن ‏{‏فلهن ثلثا ما ترك‏}‏ أي الميت، لا أزيد من الثلثين ‏{‏وإن كانت‏}‏ أي الوارثة ‏{‏واحدة‏}‏ أي منفردة، ليس معها غيرها ‏{‏فلها النصف‏}‏ أي فقط‏.‏

ولما قدم الإيصاء بالأولاد لضعفهم إذا كانوا صغاراً، وكان الوالد أقرب الناس إلى الولد وأحقهم بصلته وأشدهم اتصالاً به أتبعه حكمه فقال‏:‏ ‏{‏ولأبويه‏}‏ أي الميت، ثم فصل بعد أن أجمل ليكون الكلام آكد، ويكون سامعه إليه أشوق بقوله مبدلاً بتكرير العامل‏:‏ ‏{‏لكل واحد منهما‏}‏ أي أبيه وأمه اللذين ثنيا بأبوين ‏{‏السدس مما ترك‏}‏ ثم بين شرط ذلك فقال‏:‏ ‏{‏إن كان له‏}‏ أي الميت ‏{‏ولد‏}‏ أي ذكر، فإن كانت أنثى أخذ الأب السدس فرضاً، والباقي بعد الفروض حق عصوبة‏.‏

ولما بين حكمهما مع الأولاد تلاه بحالة فقدهم فقال‏:‏ ‏{‏فإن لم يكن له ولد‏}‏ أي ذكر ولا أنثى ‏{‏وورثه أبواه‏}‏ أي فقط ‏{‏فلأمه الثلث‏}‏ أي وللأب الباقي لأن الفرض أنه لا وارث له غيرهما، ولما كان التقدير‏:‏ هذا مع فقد الإخوة أيضاً، بني عليه قوله‏:‏ ‏{‏فإن كان له إخوة‏}‏ أي اثنان فصاعدا ذكوراً أو لا، مع فقد الأولاد ‏{‏فلأمه السدس‏}‏ أي لأن الإخوة ينقصونها عن الثلث إليه، والباقي للأب، ولا شيء لهم، وأما الأخت الواحدة فإنها لا تنقصها إلى السدس سواء كانت وارثة أو لا، وكذا الأخ إذا كان واحداً، ثم بين أن هذا كله بعد إخراج الوصية والدين لأن ذلك سبق فيه حق الميت الذي جمع المال فقال‏:‏ ‏{‏من بعد وصية يوصي بها‏}‏ أي كما مندوب لكل ميت، وقدمها في الوضع على ما هو مقدم عليها في الشرع بعثاً على أدائها، لأن أنفس الورثة تشح بها، لكونها مثل مشاركتهم في الإرث لأنها بلا عوض ‏{‏أو دين‏}‏ أي إن كان عليه دين‏.‏

ولما كان الإنسان قد يرى أن بعض أقربائه من أصوله أو فصوله أو غيرهم أنفع له، فأحب تفضيله فتعدى هذه الحدود لما رآه، وكان ما رآه خلاف الحق في الحال أو في المآل، وكان الله تعالى هو المستأثر بعلم ذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما» الحديث لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف شاء؛ قال تعالى حاثاً على لزوم ما حده مؤكداً بالجملة الاعتراضية- كما هو الشأن في اعتراض- لأن هذه القسمة مخالفة لما كانت العرب تفعله، وهي على وجوه لا تدرك عللها‏:‏ ‏{‏أبآؤكم وأبنآؤكم‏}‏ أي الذين فضلنا لكم إرثهم على ما ذكرنا ‏{‏لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً‏}‏ أي من غيره، لأنه لا إحاطة لكم في علم ولا قدرة، فلو وكل الأمر في القسمة إليكم لما وضعتم الأمور في أحكم مواضعها‏.‏

ولما بين أن الإرث على ما حده سبحانه وتعالى مؤكداً له بلفظ الوصية، وزاده تأكيداً بما جعله اعتراضاً بين الإيصاء وبين ‏(‏فريضة‏)‏ بين أنه على سبيل الحتم الذي من تركه عصى، فقال ذاكراً مصدراً مأخوذاً من معنى الكلام‏:‏ ‏{‏فريضة من الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله، ثم زادهم حثاً على ذلك ورغبة فيه بقوله تعليلاً لفريضته عليهم مطلقاً وعلى هذا الوجه‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة ‏{‏كان‏}‏ ولم يزل ولا يزال لأن وجود لا يتفاوت في وقت من الأوقات، لأنه لا يجري عليه زمان، ولا يحويه مكان، لأنه خالقهما ‏{‏عليماً‏}‏ أي بالعواقب ‏{‏حكيماً *‏}‏ أي فوضع لكم هذه الأحكام على غاية الإحكام في جلب المنافع لكم ودفع الضر عنكم، ورتبها سبحانه وتعالى أحسن ترتيب، فإن الوارث يتصل بالميت تارة بواسطة وهو الكلالة، وأخرى بلا واسطة، وهذا تارة يكون بنسب، وتارة بصهر ونسب، فقدم ما هو بلا واسطة لشدة قربه، وبدأ منه بالنسب لقوته، وبدأ منهم بالولد لمزيد الاعتناء به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

ولما كان الإرث بالمصاهرة أضعف من الإرث بالقرابة ذكره بعده، وقدمه على الإرث بقرابة الأخوة تعريفاً بالاهتمام به ولأنه بلا واسطة، وقدم منه الرجل لأنه أفضل فقال‏:‏ ‏{‏ولكم نصف ما ترك أزواجكم‏}‏ وبين شرط هذا بقوله‏:‏ ‏{‏إن لم يكن لهن ولد‏}‏ أي منكم أو من غيركم، ثم بين الحكم على التقدير الآخر فقال‏:‏ ‏{‏فإن كان لهن ولد‏}‏ أي وارث وإن سفل سواء كان ابناً أو بنتاً ‏{‏فلكم الربع مما تركن‏}‏ أي تركت كل واحدة منهن، ويغسلها الزوج لأن الله أضافها إليه باسم الزوجية، والأصل الحقيقة، ولا يضر حرمة جماعها بعد الموت وحلُّ نكاح أختها وأربع سواها، لأن ذلك لفقد المقتضي أو المانع وهو الحياة، وذلك لا يمنع علقة النكاح المبيح للغسل- كما لم يمنعها لأجل العدة لو كان الفراق بالطلاق، ثم كرر حكم الوصية اهتماماً بشأنها فقال‏:‏ ‏{‏من بعد وصية يوصين بها‏}‏ أي الأزواج أو بعضهن، ولعله جمع إشارة إلى أن الوصية أمر عظيم ينبغي أن يكون مستحضراً في الذهن غير مغفول عنه عند أحد من الناس ‏{‏أو دين‏}‏‏.‏

ولما بين إرث الرجل أتبعه إرثها فقال معلماً أنه على النصف مما للزوج- كما مضى في الأولاد-‏:‏ ‏{‏ولهن‏}‏ أي عدداً كن أو لا ‏{‏الربع مما تركتم‏}‏ أي يشتركن فيه على السواء إن كن عدداً، وتنفرد به الواحدة إن لم يكن غيرها، ثم بين شرطه بقوله‏:‏ ‏{‏إن لم يكن لكم ولد‏}‏ ثم بين حكم القسم الآخر بقوله‏:‏ ‏{‏فإن كان لكم ولد‏}‏ أي وارث ‏{‏فلهن الثمن مما تركتم‏}‏ كما تقدم في الربع، ثم كرر الخروج عن حق الموروث فقال‏:‏ ‏{‏من بعد وصية توصون بها أو دين‏}‏‏.‏

ولما فرغ من قسمي ما اتصل بالميت بلا واسطة أتبعه الثالث وهو ما اتصل بواسطة، ولما كان قسمين، لأنه تارة يتصل من جهة الأم فقط وهم الأخياف، أمهم واحدة وآباؤهم شتى، وتارة من جهة الأب فقط وهم العلات، أبوهم واحد وأمهاتهم شتى، وتارة من جهة الأبوين وهم الأعيان، وكانت قرابة الأخوة أضعف من قرابة البنوة؛ أكدها بما يقتضيه حالها، فجعلها في قصتين، ذكر إحداهما هنا إدخالاً لها في حكم الوصية المفروضة، وختم بالأخرى السورة لأن الختام من مظنات الاهتمام‏.‏

ولما كانت قرابة الأم أضعف من قرابة الأب قدمها هنا دلالة على الاهتمام بشأنها، وأن ما كانوا يفعلونه من حرمان الإناث خطأ وجور عن منهاج العدل، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان‏}‏ أي وجد ‏{‏رجل يورث‏}‏ ي من ورث حال كونه ‏{‏كلالة‏}‏ أي ذا حالة لا ولد له فيها ولا والد، أو يكون يورث من‏:‏ أورث- بمعنى أن إرث الوارث بواسطة من مات كذلك‏:‏ لا هو ولد للميت ولا والد، ووارثه أيضاً كلالة لأنه ليس بوالد ولا ولد، فالمورث كلالة وارثه، والوارث كلالة مورثة؛ قال الأصبهاني‏:‏ رجل كلالة، وامرأة كلالة، وقوم كلالة، لا يثنى ولا يجمع، لأنه مصدر كالدلالة والوكالة، وهو بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوة من الإعياء، وقد تطلق الكلالة على القرابة من غير جهة الولد والوالد، ومنه قولهم‏:‏ ما ورث المجد عن كلالة ‏{‏أو‏}‏ وجدت ‏{‏امرأة‏}‏ أي تورث كذلك، ويجوز أن يكون ‏(‏يورث‏)‏ صفة، و‏(‏كلالة‏)‏ خبر كان ‏{‏وله‏}‏ خبر كان ‏{‏وله‏}‏ أي للمذكور وهو الموروث على أي الحالتين كان‏.‏

ولما كان الإدلاء بمحض الأنوثة يستوي بين الذكر والأنثى لضعفها قال ‏{‏أخ أو أخت‏}‏ أي من الأم- بإجماع المفسرين، وهي قراءة أبيّ وسعد بن مالك رضي الله عنهما ‏{‏فلكل واحد منهما السدس‏}‏ أي من تركته، من غير فضل للذكر على الأنثى‏.‏

ولما أفهم ذلك- أي بتحويل العبارة المذكورة من أن يقال‏:‏ فله السدس- أنهما إن كانا معاً كان لهما الثلث، وكان ذلك قد يفهم أنه إن زاد وارثه زاد الإرث عن الثلث نفاه بقوله‏:‏ ‏{‏فإن كانوا‏}‏ أي ما أفهمه ‏(‏أخ أو أخت‏)‏ من الوراث منهم ‏{‏أكثر من ذلك‏}‏ أي واحد، كيف كانوا ‏{‏فهم شركاء‏}‏ أي بالسوية ‏{‏في الثلث‏}‏ أي المجتمع من السدسين اللذين تقدم أنهما بينهما، لا يزادون على ذلك شيئاً، ثم كرر الحث على مصلحة الميت بياناً للاهتمام بها فقال‏:‏ ‏{‏من بعد وصية يوصى بها أو دين‏}‏‏.‏

ولما كان الميت قد يضار ورثته، أو بعضهم بشيء يخرجه عنهم ظاهراً أو باطناً كأن يقر بماله لأجنبي، أو بدين لا حقيقة له، أو بدين كان له بأنه استوفاه؛ ختم الآية بالزجر عن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏غير مضار‏}‏ مع ما تقدم من الإشارة إلى ذلك أول القصة بقوله ‏{‏لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏؛ قال الأصبهاني‏:‏ والإضرار في الوصية من الكبائر، ثم أكد ذلك بقوله مصدراً ليوصيكم‏:‏ ‏{‏وصية من الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله مع تأكيده بجميع ما في الآيات تعظيماً للأمر باكتناف الوصية بأولها وأخرها، وهو دون الفريضة في حق الأولاد، لأن حقهم آكد‏.‏

ولما بين سبحانه الأصول وفصل النزاع، وكان ذلك خلاف مألوفهم وكان الفطام عن المألوف في الذروة من المشقة؛ اقتضى الحال الوعظ بالترغيب والترهيب، فختم القصة بقوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الجامع لصفات الكمال من الجلال والجمال، وللإشارة إلى عظيم الوصية كرر هذا الاسم الأعظم في جميع القصة، ثم قال‏:‏ ‏{‏عليم‏}‏ أي فلا يخفى عليه أمر من خالف بقول أو فعل، نية أو غيرها ‏{‏حليم *‏}‏ فهو من شأنه أن لا يعاجل بالعقوبة فلا يغتر بإمهاله، فإنه إذا أخذ بعد طول الأناة لم يفلت فاحذروا غضب الحليم‏!‏ وفي الوصفين مع التهديد استجلاب للتوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏13‏)‏ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏14‏)‏ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

ولما كان فطم أنفسهم عن منع الأطفال والنساء شديداً عليهم لمرونهم عليه بمرور الدهور الطويلة على إطباقهم على فعله واستحسانهم له أتبعه سبحانه الترغيب والترهيب لئلا يغتر بوصف الحليم، فقال معظماً للأمر بأداة البعد ومشيراً إلى جميع ما تقدم من أمر المواريث والنساء واليتامى وغيره‏:‏ ‏{‏تلك‏}‏ أي هذه الحدود الجليلة النفع العظيمة الجدوى المذكورة من أول هذه السورة، بل من أول القرآن ‏{‏حدود الله‏}‏ أي الملك الأعظم، فمن راعاها- ولو لم يقصد طاعته، بل رفعاً لنفسه عن دناءة الإخلاد إلى الفاني ومعرة الاستئثار على الضعيف المنبئ عن البخل وسفول الهمة- نال خيراً كبيراً، فإنه يوشك أن يجره ذلك إلى أن يكون ممن يطيع الله ‏{‏ومن يطع الله‏}‏ الحائز لصفتي الجلال والإكرام ‏{‏ورسوله‏}‏ أي في جميع طاعاته هذه وغيرها، بالإقبال عليها وترك ما سواها لأجله سبحانه؛ قال الأصبهاني‏:‏ «من» عام ووقوعه عقيب هذه التكاليف الخاصة لا يخصصه‏.‏

ولما تشوف السامع بكليته إلى الخبر التفت إليه تعظيماً للأمر- على قراءة نافع وابن عامر بالنون- فقال‏:‏ ‏{‏ندخله جنات‏}‏ أي بساتين، وقراءة الجماعة بالياء عظيمة أيضاً لبنائها على الاسم الأعظم وإن كانت هذه أشد تنشيطاً بلذة الالتفات ‏{‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي لأن أرضها معدن المياه، ففي أي موضع أردت جرى نهر‏.‏ فهي لا تزال يانعة غضة، وجمع الفائزين بدخول الجنة في قوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏ تبشيراً بكثرة الواقف عند هذه الحدود، ولأن منادمة الإخوان من أعلى نعيم الجنان‏.‏

ولما كان اختصاصهم بالإرث عن النساء والأطفال من الفوز عندهم، بل لم يكن الفوز العظيم عندهم إلا الاحتواء على الأموال وبلوغ ما في البال منها من الآمال قال تعالى معظماً بأداة البعد‏:‏ ‏{‏وذلك‏}‏ أي الأمر العالي المرتبة من الطاعة المندوب إليها ‏{‏الفوز العظيم *‏}‏ أي لا غيره من الاحتواء على ما لم يأذن به الله، وهذا أنسب شيء لتقديم الترغيب لتسمح نفوسهم بترك ما كانوا فيه مع ما فيه من التلطف بهذه الأمة والتبشير له صلى الله عليه وسلم بأنها مطيعة راشدة‏.‏

ولما أشربت القلوب الصافية ذوات الهمم العالية حب نيل هذا الفوز أتبعه الترهيب فطماً لها عن تلك الفوائد بالكلية فقال‏:‏ ‏{‏ومن يعص الله‏}‏ أي الذي له العظمة كلها ‏{‏ورسوله‏}‏ أي في ذلك وغيره ‏{‏ويتعد حدوده‏}‏ أي التي حدها في هذه الأحكام وغيرها، وأفرد العاصي في النيران في قوله‏:‏ ‏{‏يدخله ناراً خالداً فيها‏}‏ لأن الانفراد المقتضي للوحشة من العذاب والهوان، ولما كان منعهم للنساء والأطفال من الإرث استهانة بهم ختم الآية بقوله‏:‏ ‏{‏وله عذاب مهين *‏}‏‏.‏

ولما تقدم سبحانه في الإيصاء بالنساء، وكان الإحسان في الدنيا تارة يكون بالثواب، وتارة يكون بالزجر والعتاب، لأن مدار الشرائع على العدل والإنصاف، والاحتراز في كل باب عن طرفي الإفراط والتفريط، وختم سبحانه بإهانة العاصي إحساناً إليه بكفه عن الفساد، لئلا يلقيه ذلك إلى الهلاك أبد الآباد، وكان من أفحش العصيان الزنى، وكان الفساد في النساء أكثر، والفتنة بهن أكبر، والضرر منهن أخطر، وقد يدخلن على الرجال من يرث منهم من غير أولادهم؛ قدمهن فيه اهتماماً بزجرهن فقال‏:‏ ‏{‏واللاتي‏}‏ وهو جمع «التي» ولعله عبر فيهن بالجمع إشارة إلى كثرتهن- كما أشار إلى ذلك

‏{‏مثنى وثلاث ورباع‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ وإلى كثرة الفساد منهن ‏{‏يأتين‏}‏ أي يفعلن- من إطلاق السبب على المسبب، والتعبير به أبلغ ‏{‏الفاحشة‏}‏ أي الفعلة الشديدة الشناعة، وفي الآية- لأن من أعظم المرادات بنظمها عقب آيات الإرث وما تقدمها الاحتياط للنسب- إشارة بذكر عقوبة الزانية من غير تعرض لإرث الولد الآتي منها إلى أن الولد للفراش، وأنه لا ينفي بالمظنة، بل بعد التحقق على ما في سورة النور، لأنه لا يلزم من وجود الزنى نفيه، وكونه من الزنى، قال ابو حيان في النهر‏:‏ والفاحشة هنا الزنى بإجماع المفسرين إلا ما ذهب إليه مجاهد وتبعه أبو مسلم الأصفهاني من أنها المساحقة، ومن الرجال اللواط، ثم بين الموصول بقوله‏:‏ ‏{‏من نسائكم‏}‏ أي الحرائر ‏{‏فاستشهدوا‏}‏ أي فاطلبوا أن تشهدوا ‏{‏عليهن أربعة‏}‏ من الرجال‏.‏

ولما كان تعالى قد جعل هذه الأمة وسطاً يقبلون على غيرهم ولا يقبل غيرهم عليهم قال‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ أي من عدول المسلمين بأنهن فعلنها ‏{‏فإن شهدوا‏}‏ أي بذلك ‏{‏فأمسكوهن‏}‏ أي فاحبسوهن ‏{‏في البيوت‏}‏ أي وامنعوهن من الخروج، فإن ذلك أصون لهن، وليستمر هذا المنع ‏{‏حتى يتوفاهن الموت‏}‏ أي يأتيهن وهن وافيات الأعراض ‏{‏أو يجعل الله‏}‏ المحيط علمه وحكمته ‏{‏لهن سبيلاً *‏}‏ اي للخروج قبل الموت بتبين الحد أو بالنكاح، وإن لم يشهد الأربعة لم يفعل بهن ذلك وإن تحقق الفعل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ‏(‏16‏)‏ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏17‏)‏ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

ولما ذكر أمر النساء أتبعه حكم الرجال على وجه يعم النساء أيضاً فقال‏:‏ ‏{‏والّذان‏}‏ وهو تثنية «الذي» وشدد نونه ابن كثير تقوية له ليقرب من الأسماء المتمكنة ‏{‏يأتيانها منكم‏}‏ أي من بكر أو ثيب، أو رجل أو امرأة، ويثبت ذلك بشهادة الأربعة- كما تقدم ‏{‏فآذوهما‏}‏ وقد بين مجمل الأذى الصادق باللسان وغيره آية الجلد وسنة الرجم ‏{‏فإن تابا‏}‏ أي بالندم والإقلاع والعزم على عدم العود ‏{‏وأصحا‏}‏ أي بالاستمرار على ما عزما عليه، ومضت مدة علم فيها الصدق في ذلك ‏{‏فأعرضوا عنهما‏}‏ أي عن أذاهما، وهو يدل على أن الأذى باللسان يستمر حتى يحصل الاستبراء، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏كان تواباً‏}‏ أي رجاعاً بمن رجع عن عصيانه إلى ما كان فيه من المنزلة ‏{‏رحيماً *‏}‏ أي يخص من يشاء من عباده بالتوفيق لما يرضاه له، فتخلقوا بفعله سبحانه وارحموا المذنبين إذا تابوا، ولا يكن أذاكم لهم إلا لله ليرجعوا، وليكن أكثر كلامكم لهم الوعظ بما يقبل بقلوبهم إلى ما ترضاه الإلهية، ويؤيده أن المراد بهذا البكر والثيب من الرجال والنساء تفسير النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فيما رواه مسلم والأربعة والدارمي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه «قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» فالحديث مبين لما أجمل في الآية من ذكر السبيل‏.‏

ولما ختم ذلك بذكر توبة الزناة، وكان الحامل على الزنى- على ما يقتضيه الطبع البشري- شدة الشبق وقلة النظر في العواقب، وكان ذلك إنما هو في الشباب؛ وصل بذلك قوله تعالى معرفاً بوقت التوبة وشرطها مرغباً في تعجيلها مرهباً من تأخيرها‏:‏ ‏{‏إنما التوبة‏}‏ وهي رجوع العبد عن المعصية اعتذاراً إلى الله تعالى، والمراد هنا قبولها، سماه باسمها لأنها بدون القبول لا نفع لها، فكأنه لا حقيقة لها‏.‏

ولما شبه قبوله لها بالواجب من حيث إنه بها، لأنه لا يبدل القول لديه؛ عبر بحرف الاستعلاء المؤذن بالوجوب حثاً عليها وترغيباً فيها فقال‏:‏ ‏{‏على الله‏}‏ أي الجامع بصفات الكمال ‏{‏للذين يعملون السوء‏}‏ أيَّ سوء كان من فسق أو كفر، وقال‏:‏ ‏{‏بجهالة‏}‏ إشارة إلى شدة قبح العصيان، لا سيما الزنى من المشايخ، لإشعار السياق ترهيباً بأن الأمر فيهم ليس كذلك- كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البزار بإسناد جيد عن سلمان رضي الله عنه «ثلاثة لا يدخلون الجنة‏:‏ الشيخ الزاني، والإمام الكذاب، والعائل المزهو» وهو في مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه

«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم‏:‏ شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر» وهو عن كثير من الصحابة من طرق كثيرة، وذلك لأن حضور الموت بالقوة القريبة من الفعل وإضعاف القوى الموهنة لداعية الشهوة قريب من حضوره بالفعل، وذلك ينبغي أن يكون مذهباً لداعية الجهل، ماحقاً لعرامة الشباب، سواء قلنا‏:‏ إن المراد بالجهالة ضد الحلم، أو ضد العلم؛ قال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي‏:‏ قال أبو عبد الله- يعني القزاز‏:‏ والجاهلية الجهلاء اسم وقع على أهل الشرك يكون مأخوذاً من الجهل الذي هو ضد العلم والذي هو ضد الحلم قال وأصل الجهل من قولهم‏:‏ استجهلت الريح الغصن- إذا حركته، فكأن الجهل إنما هو حركة تخرج عن الحق والعلم- انتهى‏.‏ فالمعنى حينئذ‏:‏ يعملون السوء ملتبسين بسفه أو بحركة وخفة أخرجتهم عن الحق والعلم فكانوا كأنهم لا يعلمون- بعملهم عمل أهل الجاهلية الذين لا يعلمون، وزاد في التنفير من مواقعة السوء والتحذير بقوله‏:‏ ‏{‏ثم يتوبون‏}‏ أي يجددون التوبة‏.‏

ولما كان المراد الترغيب فيها ولو قصر زمنها بمعاودة الذنب أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من‏}‏ أي من بعض زمان ‏{‏قريب‏}‏ أي من زمن المعصية وهم في فسحة من الأجل، وذلك كناية عن عدم الإصرار إلى الموت، ولعله عبر بثم إشارة إلى بُعد التوبة ولا سيما مع القرب ممن واقع المعصية، لأن الغالب أن الإنسان إذا ارتبك في حبائلها لا يخلص إلا بعد عسر، ولذلك أشار إلى تعظيمهم بأداة البعد في قوله- مسبباً عن توبتهم واعداً أنه فاعل ما أوجبه على نفس لا محالة من غير خلف وإن كان لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء‏:‏ ‏{‏فأولئك‏}‏ أي العظيمو الرتبة الصادقو الإيمان ‏{‏يتوب الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏عليهم‏}‏ أي يردهم إلى ما كانوا فيه عندهم من مكانة القرب قبل مواقعة الذنب ‏{‏وكان الله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة ‏{‏عليماً‏}‏ أي بالصادقين في التوبة والكاذبين وبنياتهم، فهو يعاملهم بحسب ما يقتضيه حالهم ‏{‏حكيماً‏}‏ فهو يضع الأشياء في أحكم محل لها، فمهما فعله لم يمكن نقضه‏.‏

ولما بين سبحانه المقبول أتبعه المطرود فقال‏:‏ ‏{‏وليست التوبة‏}‏ أي قبولها ‏{‏للذين يعملون السيئات‏}‏ أي واحدة بعد أخرى مصرين عليها فسقة كانوا أو كفرة، غير راجعين من قريب، بل يمهلون ‏{‏حتى إذا حضر‏}‏ ولما كان تقديم المفعول- على وجه يجوّز كل سامع وقوعه عليه- أهول، لكونه يصير مرتقباً حال فاعله، خائفاً من عاقبته قال‏:‏ ‏{‏أحدهم الموت‏}‏ أي بأن وصل إلى حد الغرغرة، وهي حالة المعاينة ‏{‏قال‏}‏ أي بلسانه كفرعون، أو قلبه ‏{‏إني تبت الآن‏}‏ فبين أن ما قبل الاحتضار قريب مع الترغيب في المسارعة جداً بالتعبير بقريب ‏{‏ولا الذين‏}‏ أي وليست التوبة للذين ‏{‏يموتون وهم كفار‏}‏ حقيقة أو مجازاً، من غير أن يتوبوا، ولا عند الغرغرة، فسوى بين الفسق والكفر تنفيراً من الفسق لصعوبة النزع عنه بعد مواقعته، ولذلك جمعهما في العذاب بقوله- جواباً لمن كأنه قال‏:‏ فما جزاء هذين الصنفين‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء من الرحمة، الذين لم يتوبوا إلا حال الغرغرة، والذين ماتوا مصرين ‏{‏أعتدنا‏}‏ أي هيأنا وأحضرنا ‏{‏لهم عذاباً‏}‏ ولما كان تأخير التوبة لذة نفسانية ختم بقوله‏:‏ ‏{‏أليماً *‏}‏ أي نعذب به الكافرين ومن شئنا من عصاة المؤمنين، لأن توبتهم في تلك الحالة عدم، والميت من غير توبة من المؤمنين في المشيئة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 21‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ‏(‏19‏)‏ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏20‏)‏ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

ولما انقضى ما تخلل ذكر النساء الوالدات للوراث، وختمه بهذا التهديد الهائل لمن فعل ما لا يحل له؛ وصل الكلام فيهن بأمر من فعله، فهو زان مصر على الزنى إلى الموت إن اعتقد حرمته، أو كافر إن اعتقد حله، فقال مشيراً بتخصيص المؤمنين عقب ‏{‏ولا الذين يموتون وهم كفار‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 18‏]‏ إلى أنه لا يرث كافر من مسلم، وإلا لقال‏:‏ يا أيها الناس- مثلاً، منفراً من ذلك بالتقييد بما هو لأدنى الإيمان‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي فوقف بهم الإيمان عند زواجرنا ‏{‏لا يحل لكم أن ترثوا النساء‏}‏ أي مالهن ‏{‏كرهاً‏}‏ أي كارهين لهن، لا حامل لكم على نكاحهن إلا رجاء الإرث، وذلك أنهم كانوا ينكحون اليتامى لمالهن، وليس لهم فيهن رغبة إلا تربص الموت لأخذ مالهن ميراثاً- كما سيأتي في تفسير ‏{‏ويستفتونك في النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏ أو يكون الفعل واقعاً على نفس النساء، ويكون ‏(‏كرهاً‏)‏ على هذا حالاً مؤكدة، أي كارهات، أو ذوات كره، وذلك لأن الرجل كان إذا مات وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فيلقي ثوبه عليها، فيصير أحق بها من نفسها ومن غيرها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج، يضارها لتفتدي منه بما ورثت من الميت، أو تموت هي فيرثها، وكان أهل المدينة على هذا حتى توفي أبو قيس بن الأسلت، ففعل ابنه حصن هذا مع زوجة له، فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال؛ «كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، وهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك ‏{‏لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً‏}‏» ولهذا أتبعه سبحانه قوله‏:‏ ‏{‏ولا تعضلوهنَّ‏}‏ أي تمنعوهن من التزوج بعد طلاقكم لهن أو بعد موت أزواجهن، أوتشددوا عليهن بالمضارة وهن في حبائلكم؛ قال البيضاوي‏:‏ وأصل العضل‏:‏ التضييق، يقال عضلت الدجاجة بيضها- انتهى‏.‏ والظاهر أن مدار مادته إنما هو على الاشتداد، من عضلة الساق، وهي اللحمة التي في باطنه، ونقل عبد الحق أنها كل لحم اجتمع، قال‏:‏ وقال الخليل‏:‏ كل لحمة اشتملت على عصبة- انتهى‏.‏ وتارة يكون الاشتداد ناظراً إلى المنع، وتارة إلى الغلبة والضيق، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن‏}‏ أي أنتم إن كن أزواجاً لكم، أو مورثوكم إن كن أزواجاً لهم وعضلتموهن بعدهم، ليذهب ذلك بسبب إنفاقهن له على أنفسهن في زمن العضل، أو بسبب افتدائهن لأنفسهن به منكم، ثم استثنى من تحريم العضل في جميع الحالات فقال‏:‏ ‏{‏إلا أن‏}‏ أي لا تفعلوا ذلك لعلة من العلل إلا لعلة أن ‏{‏يأتين بفاحشة‏}‏ أي فعلة زائدة القبح ‏{‏مبينة‏}‏ أي بالشهود الأربعة إن كانت زنى فاعضلوهن بالإمساك في البيوت- كما مضى- لأن من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، أو بمن يقبل من الشهود إن كانت نشوزاً وسوء عشرة، فلكم العضل حينئذ إلى الصلاح أو الافتداء بما تطيب به النفس، والأنسب لسياق الأمر في ‏{‏وعاشروهن‏}‏ أن يكون ‏{‏تعضلوهن‏}‏ منهياً، لا معطوفاً على «أن ترثوا» ‏{‏بالمعروف‏}‏ أي من القول والفعل بالمبيت والنفقة والموادة قبل الإتيان بالفاحشة ‏{‏فإن‏}‏ أي إن كنتم لا تكرهونهن فالأمر واضح، وإن ‏{‏كرهتموهن‏}‏ فلا تبادروا إلى المضاجرة أو المفارقة، واصبروا عليهن نظراً لما هو الأصلح، لا لمجرد الميل النفسي، فإن الهوى شأنه أن لا يدعو إلى خير ثم دل على هذه العلة بقوله‏:‏ ‏{‏فعسى‏}‏ ولوضوح دلالتها على ذلك صح جعلها جواباً للشرط ‏{‏أن تكرهوا شيئاً‏}‏ أي من الأزواج أو غيرها، لم يقيده سبحانه تعميماً تتميماً للفائدة ‏{‏ويجعل الله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة، وغيَّب بحكمته علمكم العواقب لئلا تسكنوا إلى مألوف، أو تنفروا من مكروه ‏{‏فيه خيراً كثيراً *‏}‏‏.‏

ولما نهى عن العضل تسبباً إلى إذهاب بعض ما أعطيته المرأة أتبعه التصريح بالنهي عن أخذ شيء منه في غير الحالة التي أذن فيها في المضارة فقال‏:‏ ‏{‏وإن‏}‏ أي إن لم تعضلوا المرأة، بل ‏{‏أردتم استبدال زوج‏}‏ أي تنكحونها ‏{‏مكان زوج‏}‏ أي فارقتموها أو لا، ولم يكن من قبلنا ما يبيح الضرار‏.‏

ولما كان المراد بزوج الجنس جمع في قوله‏:‏ ‏{‏وآتيتم إحداهن‏}‏ أي إحدى النساء اللاتي وقع الإذن لكم في جمعهن في النكاح سواء كانت بدلاً أو مستبدلاً بها ‏{‏قنطاراً‏}‏ أي مالاً جماً ‏{‏فلا تأخذوا منه شيئاً‏}‏ أي بالمضارة عن غير طيب نفس منها، ولا سبب مباح، ثم عظم أخذه باستفهام إنكار وتوبيخ فقال‏:‏ ‏{‏أتأخذونه‏}‏ أي على ذلك الوجه، ولما تقدم أن من صور الغصب على الافتداء حال الإتيان بالفاحشة شبه الأخذ في هذه الحالة التي لا سبب لها بالأخذ في تلك الحالة، فجعل الأخذ على هذه الصورة قائماً مقام القذف بما لا حقيقة له فلذلك قال‏:‏ ‏{‏بهتاناً وإثماً مبيناً *‏}‏ أي كذوي بهتان في أخذه وإثم مبين- لكونه لا سبب له- يورث شبهة فيه، ثم غلظ ذلك باستفهام آخر كذلك فقال‏:‏ ‏{‏وكيف تأخذونه وقد‏}‏ أي والحال أنه قد ‏{‏أفضى‏}‏ أي بالملامسة ‏{‏بعضكم إلى بعض‏}‏ أي فكدتم أن تصيروا جسداً واحداً ‏{‏وأخذن‏}‏ أي النساء ‏{‏منكم‏}‏ أي بالإفضاء والاتحاد ‏{‏ميثاقاً غليظاً *‏}‏ قوياً عظيماً، أي بتقوى الله في المعاشرة بالإحسان وعدم الإساءة، لأن مبنى النكاح على ذلك وإن لم يصرح به فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ‏(‏22‏)‏ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

ولما كرر ذكر الإذن في نكاحهن وما تضمنه منطوقاً مفهوماً، وكان قد تقدم الإذن في نكاح ما طاب من النساء، وكان الطيب شرعاً قد يحمل على الحل؛ مست الحاجة إلى ما يحل منهن لذلك وما يحرم فقال‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا‏}‏ أي تتزوجوا وتجامعوا ‏{‏ما نكح‏}‏ أي بمجرد العقد في الحرة، وبالوطء في ملك اليمين ‏{‏آبآؤكم‏}‏ وبين ‏{‏ما‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏من النساء‏}‏ أي سواء كانت إماء أو لا، بنكاح أو ملك يمين، وعبر بما دون «من» لما في النساء غالباً من السفه المدني لما لا يعقل‏.‏

ولما نهى عن ذلك فنزعت النفوس عما كان قد ألف بهاؤه فلاح أنه في غاية القباحة وأن الميل إليه إنما هو شهوة بهيمية لا شيء فيها من عقل ولا مروة، وكانت عادتهم في مثل ذلك مع التأسف على ارتكابه السؤال عما مضى منه- كما وقع في استقبال بيت المقدس وشرب الخمر؛ أتبعه الاستثناء من لازم الحكم وهو‏:‏ فإنه موجب لمقت من ارتكبه وعقابه فقال‏:‏ ‏{‏إلا ما قد سلف‏}‏ أي لكم من فعل ذلك في أيام الجاهلية كما قال الشافعي رحمه الله في الأم، قال السهيلي في روضه‏:‏ وكان ذلك مباحاً في الجاهلية لشرع متقدم، ولم يكن من الحرمات التي انتهكوها‏.‏ ثم علل النهي بقوله‏:‏ ‏{‏إنه‏}‏ اي هذا النكاح ‏{‏كان‏}‏ أي الآن وما بعده كوناً راسخاً ‏{‏فاحشة‏}‏ أي والفاحشة لا يقدم عليها تام العقل ‏{‏ومقتاً‏}‏ أي أشر ما يكون بينكم وبين ذوي الهمم لما انتهكتم من حرمة آبائكم ‏{‏وساء سبيلاً *‏}‏ أي قبح طريقاً طريقه‏.‏

ولما ابتدأ بتعظيم الآباء واحترامهم في أن ينكح الأبناء أزواجهم على العموم ثنى بخصوص الأم بقوله‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم‏}‏ ولما كان أعظم مقصود من النساء النكاح، فكان إضافة التحريم إلى أعيانهن إفادة التأكيد غير قادح في فهمه، وكان مع ذلك قد تقدم ما يدل على أن المراد النكاح؛ أسند التحريم إلى الذات تأكيداً للتحريم فقال‏:‏ ‏{‏أمهاتكم‏}‏ أي التمتع بهن بنكاح أو ملك يمين، فكان تحريمها مذكوراً مرتين تأكيداً له وتغليظاً لأمره في نفسه واحتراماً للأب وتعظيماً لقدره ‏{‏وبناتكم‏}‏ أي وإن سفلن لما في ذلك من ضرار أمهاتهن، وهذان الصنفان لم يحللن في دين من الأديان ‏{‏وأخواتكم‏}‏ أي أشقاء أو لا ‏{‏وعمّاتكم‏}‏ كذلك ‏{‏وخالاتكم‏}‏ أيضاً، والضابط لهما أن كل ذكر رجع نسبك إليه فأخته عمتك، وقد تكون من جهة الأم وهي أخت أبي أمك؛ وكل أنثى رجع نسبك إليها بالولادة فأختها خالتك، وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك ‏{‏وبنات الأخ‏}‏ شقيقاً كان أو لا ‏{‏وبنات الأخت‏}‏ أي كذلك، وفروعهن وإن سفلن‏.‏

ولما انقضى أمر النسب وهو سبعة أصناف أتبعه أمر السبب وهو ثمانية‏:‏ أوله أزواج الآباء، أفردها وقدمها تعظيماً لحرمتها، لما كانوا استهانوا من ذلك، وآخره المحصنات، وبدأ من هذا القسم بالأم من الرضاع كما بدأ النسب بالأم فقال‏:‏ ‏{‏وأمهاتكم اللاَّتي أرضعنكم‏}‏ تنزيلاً له منزلة النسب، ولذلك سماها أمّاً، فكل أنثى انتسب باللبن إليها فهي أمك، وهي من أرضعتك، أو أرضعت امرأة أرضعتك، أو رجلاً أرضعك بلبانه من زوجته أو أم ولده، وكل امرأة ولدت امرأة أرضعتك أو رجلاً أرضعك فهي أمك من الرضاعة والمراضعة أختك، وزوج المرضعة الذي أرضعت هي بلبانه أبوك وأبواه جداك، وأخته عمتك، وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده إخوة الأب، وأم المرضعة جدتك، وأختها خالتك، وكل من ولد لها من هذا الزوج إخوة لأب وأم، ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأم، فعلى ذلك ينزل قوله‏:‏ ‏{‏وأخواتكم من الرضاعة‏}‏ كما في النسب بشرط أن يكون خمس رضعات وفي الحولين، وبتسمية المرضعة أمّاً والمشاركة في الرضاع أختاً عُلِم أن الرضاع كالنسب‏.‏ كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» فالصورتان منبهتان على بقية السبع؛ الأم منبهة على البنت بجامع الولادة، والأخوات على العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت بجامع الأخوة‏.‏

ولما انقضى ما هو كلحمة النسب أتبعه أمر بالمصاهرة فقال‏:‏ ‏{‏وأمهات نسائكم‏}‏ أي دخلتم بهن أو لا- لما في ذلك من إفساد ذات البين غالباً ‏{‏وربائبكم‏}‏ وذكر سبب الحرمة فقال‏:‏ ‏{‏اللاَّتي في حجوركم‏}‏ أي بالفعل أو بالقوة- لما فيهن من شبه الأولاد ‏{‏من نسائكم‏}‏ ولما كانت الإضافة تسوغ في اللغة بأدنى ملابسة بين سبحانه أنه لا بد من الجماع الذي كنى عنه بالدخول لأنه ممكن لحكم الأزواج الذي يصير به أولادها كأولاده فقال‏:‏ ‏{‏اللاَّتي دخلتم بهن‏}‏ قيد بالدخول لأن غيرة الأم من ابنتها دون غيرة البنت من أمها‏.‏

ولما أشعر هذا القيد بحل بنت من عقد عليها ولم يدخل بها أفصح به تنبيهاً على عظيم حرمة الإرضاع فقال‏:‏ ‏{‏فإن لم تكونوا دخلتم بهن‏}‏ أي الأمهات ‏{‏فلا جناح عليكم‏}‏ أي في نكاحهن؛ ولما افتتح المحرمات على التأبيد بزوجة الأب ختمها بزوجة الولد فقال‏:‏ ‏{‏وحلائل أبنائكم‏}‏ أي زوجة كانت أو موطوءة بملك يمين؛ ولما لم يكن المتبنى مراداً قيد بقوله‏:‏ ‏{‏الذين من أصلابكم‏}‏ أي وإن سفلوا، ودخل ما بالرضاع لأنه كلحمة النسب فلم يخرجه القيد‏.‏

ولما انقضى التحريم المؤبد أتبعه الموقت فقال‏:‏ ‏{‏وأن‏}‏ أي وحرم عليكم أن ‏{‏تجمعوا‏}‏ بعقد نكاح لأن مقصوده الوطء، أو بوطء في ملك يمين ‏{‏بين الأختين‏}‏ فإن كانت إحداهما منكوحة والأخرى مملوكة حلت المنكوحة وحرمت المملوكة ما دام الحل، لأن النكاح أقوى، فإذا زال الحل حلت الأخرة ولو في عدة التي كانت حلالاً‏.‏

ولما كان الجمع بين الأختين شرعاً قديماً قال‏:‏ ‏{‏إلا ما قد سلف‏}‏ أي فإنه لا إثم عليكم فيه رحمة من الله لكم، ثم علل رفع حرجه فقال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال ‏{‏كان غفوراً‏}‏ أي ساتراً لما يريد من أعيان الزلل وآثاره ‏{‏رحيماً *‏}‏ أي معاملاً بغاية الإكرام الذي ترضاه الإلهية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

ولما ذكر مضارة الجمع أتبعه مضارة الإغارة على الحق والأول جمع بين المنكوحين وهذا جمع بين الناكحين فقال- عاطفاً على النائب عن فاعل ‏{‏حرمت‏}‏‏:‏ ‏{‏والمحصنات‏}‏ أي الحرائر المزوجات لأنهن منعت فروجهن بالنكاح عن غير الأزواج ‏{‏من النساء إلا ما ملكت أيمانكم‏}‏ أي من أزواج أهل الحرب، فإن الملك بالأسر يقطع النكاح‏.‏

ولما أتم ذلك قال مؤكداً له ومبيناً عظمته‏:‏ ‏{‏كتاب الله‏}‏ أي خذوا فرض الملك الأعظم الذي أوجبه عليكم إيجاب ما هو موصول في الشيء بقطعه منه، والزموه غير ملتفتين إلى غيره، وزاد في تأكيده بأداة الوجوب فقال‏:‏ ‏{‏عليكم‏}‏ ولما أفهم ذلك حل ما سواه أفصح به احتياطاً للإيضاح وتعظيماً لحرمتها في قوله‏:‏ ‏{‏وأحل لكم‏}‏ وبين عظمة هذا التحريم بأداة البعد فقال‏:‏ ‏{‏ما وراء ذلكم‏}‏ أي الذي ذكر لكم من المحرمات العظيمة‏.‏

ولما كان الكلام في المنع لمن يصرح بالفاعل بل قال؛ «حرمت»- ترفقاً في الخطاب حثاً على الآداب، فلما وصل الأمر إلى الحل أظهره تطييباً للقلوب وتأنيساً للنفوس في قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر بفتح الهمزة والحاء، وأبهمه في قراءة الباقين على نسق ‏{‏حرمت‏}‏ لأن فاعل الحل والحرمة عند أهل هذا الكتاب معروف أنه الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه أصلاً، ثم أتبع التحليل علته فقال‏:‏ ‏{‏أن‏}‏ أي إرادة أن ‏{‏تبتغوا‏}‏ أي تطلبوا متبعين من شئتم مما أحل لكم ‏{‏بأموالكم‏}‏ اللاتي تدفعونها مهوراً حال كونكم ‏{‏محصنين‏}‏ أي قاصدين بذلك العفة لأنفسكم ولهن ‏{‏غير مسافحين‏}‏ أي قاصدين قضاء الشهوة وصب الماء الدافق لذلك فقط، وهو على هذا الوجه لا يكون إلا زنًى سراً وجهراً، فيكون فيه حينئذ إضاعة المال وإهلاك الدين، ولا مفسدة أعظم مما يجمع هذين الخسرانين‏.‏

ولما تقدم أول السورة وأثناءهها الأمر بدفع الصداق والنهي عن أخذ شيء مما دفع إلى المرأة، وكان ذلك أعم من أن يكون بعد الدخول أو قبله، مسمى أو لا قال هنا مسبباً عن الابتغاء المذكور‏:‏ ‏{‏فما استمتعتم‏}‏ أي أوجدتم المتاع وهو الانتفاع ‏{‏به منهن‏}‏ بالبناء بها، متطلبين لذلك من وجوهه الصحيحة راغبين فيه ‏{‏فآتوهن أجورهن‏}‏ أي عليه كاملة، وهي المهور ‏{‏فريضة‏}‏ أي حال كونها واجبة من الله ومسماة مقدرة قدرتموها على أنفسكم، ويجوز كونه تأكيداً لآتوا بمصدر من معناه ‏{‏ولا جناح‏}‏ أي حرج وميل ‏{‏عليكم فيما تراضيتم به‏}‏ أي أنتم والأزواج ‏{‏من بعد الفريضة‏}‏ أي من طلاق أو فراق أو زيادة أو نقص إن كانت موجودة مقدرة، أو من مهر المثل من بعد تقديره إن لم تكن مسماة فيمن عقد عليها من غير تسمية صداق‏.‏

ولما ذكر في هذه الآيات أنواعاً من التكاليف هي في غاية الحكمة، والتعبير عنها في الذروة العليا من العظمة، وختمها بإسقاط الجناح عند الرضى وكان الرضى أمراً باطناً لا يطلع عليه حقيقة إلا الله تعالى، حث على الورع في شأنه بنوط الحكم بغلبة الظن فقال مرغباً في امتثال أوامره ونواهيه‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة التامة علماً وقدرة ‏{‏كان عليماً‏}‏ أي بمن يقدم متحرياً لرضى صاحبه أو غير متحرٍّ لذلك ‏{‏حكيماَ *‏}‏ أي يضع الأشياء في أمكن مواضعها من الجزاء على الذنوب وغيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

ولما مضى ذلك على هذا الوجه الجليل عرف أنه كله في الحرائر لأنه الوجه الأحكم في النكاح، وأتبعه تعليم الحكمة في نكاح الإماء؛ فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ هذا حكم من استطاع نكاح حرة‏:‏ ‏{‏ومن لم يستطع منكم‏}‏ أي أيها المؤمنون ‏{‏طولاً‏}‏ أي سعة وزيادة عبر فيما قبله بالمال تهويناً لبذله بأنه ميال، لا ثبات له، وهنا بالطول الذي معناه‏:‏ التي قل من يجدها ‏{‏أن‏}‏ أي لأن ‏{‏ينكح المحصنات‏}‏ أي الحرائر، فإن الحرة مظنة العفة الجاعلة لها فيما هو كالحصن على مريد الفساد، لأن العرب كانوا يصونونهنَّ وهنَّ أنفسهن عن أن يكن كالإماء ‏{‏المؤمنات‏}‏ بسبب كثرة المؤنة وغلاء المهر ‏{‏فمن‏}‏ أي فلينكح إن أراد من ‏{‏ما ملكت أيمانكم‏}‏ أي مما ملك غيركم من المؤمنين ‏{‏من فتياتكم‏}‏ أي إمائكم، وأطلقت الفتوة- وهي الشباب- على الرقيق لأنه يفعل ما يفعل الشاب لتكليف السيد له إلى الخدمة وعدم توقيره وإن كان شيخاً، ثم وضح المراد بالإضافة فقال‏:‏ ‏{‏المؤمنات‏}‏ أي لا من الحرائر الكافرات ولا مما ملكتم من الإماء الكافرات ولا مما ملك الكفار حذراً من مخالطة كافرة خوفاً من الفتنة- كما مضى في البقرة، ولئلا يكون الولد المسلم بحكم تبعية أمه في الرق ملكاً لكافر، هذا ما تفهمه العبارة ولكنهم قالوا‏:‏ إن تقييد المحصنات بالمؤمنات لا مفهوم له، وإلا لصار نكاح الحرة الكتابية المباح بآية المائدة مشروطاً بعقد مسلمة، حرة كانت أو أمة، ولم يشترط ذلك؛ ومذهب الشافعي أنه لا يجوز نكاح الأمة مع القدرة على حرة كتابية، والظاهر أن فائدة التقييد الندب إلى مباعدة الكفار فلا ينكح منهن إلا لضرورة، فكأن هذه سورة المواصلة، أسقط فيها أهل المباعدة، والمائدة سورة تمام الدين، فذكر فيها ما يجوز لأهله فلا ضرر في القيد، لأن المفهوم لا يقوى لمعارضة المنطوق مع ما فيه من فائدة الندب إلى الترك، وهذا كما أن قيد الإحصان هنا للندب إلى عدم نكاح الزواني مع جوازه بآية النور ‏{‏وانكحوا الأيامى منكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏ كما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

ولما شرط في هذا النكاح الإيمان، وعبر فيه بالوصف، وكان أمراً قلبياً، لا يطلع على حقيقته إلا الله؛ أعقبه ببيان أنه يكتفى فيه بالظاهر فقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الإحاطة التامة بالمعلومات والمقدورات ‏{‏أعلم بإيمانكم‏}‏ فربما ظهر ضعف إيمان أحد والباطن بخلافه، لكن في التعبير به وبالوصف لا بالفعل إرشاد إلى مزيد التحري من جهة الدين «فاظفر بذات الدين، تربت يداك‏!‏»‏.‏ ولما اشترط الدين كان كأنه قيل‏:‏ فالنسب‏؟‏ فأشير إلى عدم اشتراطه بقوله‏:‏ ‏{‏بعضكم من بعض‏}‏ أي كلكم من آدم وإن تشعبتم بعده ‏{‏فانكحوهن‏}‏ أي بشرط العجز ‏{‏بإذن أهلهن‏}‏ أي من مواليهن، ولا يجوز نكاحهن من غير إذنهم‏.‏

ولما كان مما لا يخفى أن السيد المالك للرقبة مالك للمنفعة من باب الأولى كان الأمر بدفع المهور إليهن مفيداً لندب السيد إلى جبرها به من غير أن يوهم أنها تملكه وهي لا تملك نفسها، فلذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوهن أجورهن‏}‏ وهي المهور ‏{‏بالمعروف‏}‏ أي من غير ضرار، لا عليكم ولا عليهن ولا على أهلهن، حال كونهن ‏{‏محصنات‏}‏ أي عفائف بانفسهن أو بصون الموالي لهن ‏{‏غير مسافحات‏}‏ أي مجاهرات بالزنى لمن أراد، لا لشخص معين ‏{‏ولا متخذات أخدان‏}‏ أي أخلاء في السر للزنى معينين، لا تعدو ذات الخدن خدنها إلى غيره؛ قال الأصبهاني‏:‏ وهو- أي الخدن- الذي يكون معك في كل ظاهر وباطن‏.‏

ولما لم يتقدم بيان حد الإماء قال مبنياً له‏:‏ ‏{‏فإذا أحصن‏}‏ مبنياً للفاعل في قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم، والمفعول في قراءة الباقين، أي انتقلن من حيز التعريض للزنى بالإكراه إلى حيز الحرائر بأن حفظن فروجهن بكراهتهن للزنى، أو حفظهن الموالي بالرضى لهن بالعفة؛ وقال الشافعي في أوائل الرسالة في آخر الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه والسنة على بعضه‏:‏ إن معنى ‏(‏أحصن‏)‏ هنا‏:‏ أسلمن، لا نكحن فاصبن بالنكاح، ولا أعتقن وإن لم يصبن، وقال‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ أراك توقع الإحصان على معان مختلفة‏؟‏ قيل‏:‏ نعم، جماع الإحصان أن يكون دون التحصين مانع من تناول المحرم، فالإسلام مانع، وكذلك الحرية مانعة، وكذلك التزوج والإصابة مانع وكذلك الحبس في البيوت مانع، وكل ما منع أحصن، وقد قال الله عز وجل ‏{‏وعلمناه صنعة لبؤس لكم لتحصنكم من بأسكم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 80‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏لا يقاتلونكم جميعاً إلى في قرى محصنة‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 41‏]‏ يعني مممنوعة، قال‏:‏ وآخر الكلام وأوله يدلان على أن معنى الإحصان المذكور عام في موضع دون غيره، إذ الإحصان ها هنا الإسلام دون النكاح والحرية والتحصين بالحبس والعفاف، وهذه الأسماء التي يجمعها اسم الإحصان- انتهى‏.‏ ‏{‏فإن أتين بفاحشة‏}‏ ولا تكون حينئذ إلا عن رضى من غير إكراه‏.‏

ولما كان من شأن النكاح تغليظ الحد، فغلظ في الحرائر بالرجم؛ بين تعالى أنه لا تغليظ على الإماء، بل حدهن بعده هو حدهن قبله، فقال ‏{‏فعليهن نصف ما على المحصنات‏}‏ أي الحرائر لأنهن في مظنة العفة وإن كن بغير أزواج ‏{‏من العذاب‏}‏ أي الحد- كما كان ذلك عذابهن قبل الإحصان، وهذا يفهمه بطريق الأولى، والمراد هنا الجلد، لأن الرجم لا ينتصف‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ هل هذا لكل عاجز عن الحرة‏؟‏ استؤنف جواب هذا السؤال بقوله تعالى مشيراً بأداة البعد إلى أنه مما لا يحسن قربه‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي حل نكاح الإماء الذي ينبغي البعد منه ‏{‏لمن خشي العنت‏}‏ أي الوقوع في الزنا الموجب للإثم المقتضي للهلاك بالعذاب في الدنيا والآخرة بما عنده من عظيم الداعية إلى النكاح ومشقة الصبر عنه؛ قالوا‏:‏ وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة وضرر؛ قال الأصبهاني‏:‏ وقيل‏:‏ إن الشبق الشديد والغلمة العظيمة قد يؤدي بالإنسان إلى الأمراض الشدية، أما في حق النساء فقد يؤدي إلى اختناق الرحم، وأما في حق الرجال فقد يؤدي إلى أوجاع الوركين والظهر‏.‏

ولما كان هذا التخفيف والتيسير خاصاً بالمؤمنين منا قيد بقوله‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏‏.‏

ولما بين إباحته وأشار إلى البعد عنه لما فيه من استرقاق الولد صرح بالندب إلى حبس النفس عنه فقال‏:‏ ‏{‏وإن تصبروا‏}‏ أي عن نكاحهن متعففين ‏{‏خير لكم‏}‏ أي لئلا تعيروا بهن، أو تسترق أولادكم منهن، ثم أتبع ذلك بتأكيده لذوي البصائر والهمم في سياق دال على رفع الحرج فقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام ‏{‏غفور‏}‏ أي لمن لم يصبر، والمغفرة تشير إلى نوع تقصير ‏{‏رحيم *‏}‏ أي فاعل به فعل الراحم منكم بالإذن في قضاء وطره واللطف فيما يتبع ذلك من المحذور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

ولما أتم سبحانه الحلال والحرام من هذه الحدود والأحكام، وختمها بصفة الرحمة بين ما أراد بها من موجبات الرحمة تذكيراً بالنعمة لتشكر، وتحذيراً من أن تنسى فتكفر فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله‏}‏ أي الملك الأعظم إنزال هذه الأحكام على هذا النظام ‏{‏ليبين لكم‏}‏ أي ليوقع لكم البيان الشافي فيما لكم وعليكم من شرائع الدين ‏{‏ويهديكم‏}‏ أي يعرفكم ‏{‏سنن‏}‏ أي طرق ‏{‏الذين‏}‏ ولما كان المراد بعض الماضين قال‏:‏ ‏{‏من قبلكم‏}‏ أي من أهل الكتاب‏:‏ الأنبياء وأتباعهم ‏{‏ويتوب عليكم‏}‏ أي يرجع بكم عن كل ما لا يرضيه، لا سيما ما يجر إلى المقاطعة- مثل منع النساء والأطفال الإرث، ومثل نكاح ما يحرم نكاحه وغير ذلك، فأعلمهم بهذا أنهم لم يخصهم بهذه التكاليف، بل يسلك بهم فيها صراط الذين أنعم عليهم ليكون ذلك أدعى لهم إلى القبول وأعون على الامتثال، وليتحققوا أن إلقاء أهل الكتاب الشبه إليهم وتذكيرهم بالأضغان لإرادة إلقاء العداوة محض حسد لمشاركتهم لهم في مننهم إذ هدوا لسننهم، وما أحسن ختم ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط بأوصاف الكمال ‏{‏عليم حكيم *‏}‏ فلا يشرع لكم شيئاً إلا وهو في غاية الإحكام‏.‏ فاعملوا به يوصلكم إلى دار السلام‏.‏

بيان ذلك أن ما في هذه السورة الأمر بالتقوى والحث عليها، وبيان الفرائض وأمر الزناة، وما يحل ويحرم من النساء، والتحري في الأموال، والإحسان إلى الناس، لا سيما الأيتام والوالدين، والإذعان للأحكام، وتحريم القتل، والأمر بالعدل في الشهادة وغيرها، وكل ذلك مبين أصوله في التوراة كما هو مبثوث في هذا الديوان عن نصوصها في المواضع اللائقة به، لكن القرآن أحسن بياناً وأبلغ تبياناً وأبدع شأناً وألطف عبارة وأدق إشارة، وأعجب ذلك أن سبب إنزال فرائض الميراث في شريعتنا النساء، ففي الصحيحين وغيرهما عن جابر رضي الله عنه قال‏:‏ «مرضت فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاني وقد أغمي عليّ» وفي رواية البخاري في التفسير‏:‏ «عادني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ فصب عليّ وضوءه فأفقت، فقلت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ كيف أصنع في مالي‏؟‏» وفي رواية لمسلم‏:‏ «إنما يرثني كلالة فلم يجبني بشيء» وفي رواية الترمذي‏:‏ «وكانت لي تسع أخوات حتى نزلت آية الميراث» وفي رواية للبخاري‏:‏ «فنزلت» وفي رواية للترمذي‏:‏ «حتى نزلت ‏(‏يوصيكم الله في أولادكم‏)‏» وفي رواية للترمذي‏:‏ حتى نزلت آية الميراث ‏{‏يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة‏}‏ الآية، وقال‏:‏ حديث صحيح‏.‏ ولأبي داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال‏:‏

«جاءت امرأة سعد بن ربيع بابنتيها من سعد رضي الله عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً، ولا تنكحان إلا ولهما مال، قال‏:‏ يقضي الله عز وجل في ذلك، فنزلت آية الميراث» وفي رواية أبي داود‏:‏ ونزلت الآية في سورة النساء، ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏ وفي رواية الدارقطني‏:‏ «فنزلت سورة النساء، وفيها ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏ إلى آخر الآية- فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال‏:‏ أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك» وفي رواية للدارقطني‏:‏ «إن امرأة سعد بن الربيع قالت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إن سعداً هلك وترك ابنتين وأخاه فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد، وإنما تنكح النساء على أموالهن، فلم يجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه ذلك، ثم جاءته فقالت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ ابنتا سعد‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ادعي لي أخاه‏!‏ فجاء فقال‏:‏ ادفع إلى ابنتيه الثلثين، وإلى امرأته الثمن، ولك ما بقي» وقال شيخنا حافظ عصره أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر في الإصابة في أسماء الصحابة‏:‏ روى أبو الشيخ في تفسيره من طريق عبد الله بن الأجلح الكندي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ «كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الأولاد الصغار حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن ثابت، وترك بنتين وابناً صغيراً، فجاء ابنا عمه خالد وعرفطة فأخذا ميراثه، فقالت امرأته للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فأنزل الله تعالى ‏{‏للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏ فأرسل إلى خالد وعرفطة فقال‏:‏ لا تحركا من الميراث شيئاً» ورواه أبو الشيخ من وجه آخر فقال‏:‏ قتادة وعرفطة ورواه الثعلبي في تفسيره فقال‏:‏ سويد وعرفطة، ووقع عنده أنهما أخوا أوس‏:‏ ورواه مقاتل في تفسيره لفقال‏:‏ إن أوس بن مالك توفي يوم أحد وترك امرأته أم كجة وبنتين فذكر القصة «وذكر شيخنا في تخريج أحاديث الكشاف أن الثعلبي والبغوي ساقا بلا سند أن أوس بن الصامت الأنصاري ترك امرأته أم كجة وثلاث بنات، فزوى ابنا عمه سويد وعرفطه أو قتادة وعرفجة ميراثة عنهن، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الأطفال ويقولون‏:‏ لا يرث إلا من طاعن بالرماح، وذاد عن الحوزة، وحاز الغنيمة، فجاءت أم كجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيخ، فشكت إليه، فقال‏:‏ ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله، فنزلت

‏{‏للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏ فبعث إليهما‏:‏ لا تفرقا من مال أوس شيئاً، فإن الله قد جعل لهن نصيباً، ولم يبين حتى نزلت ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏ الآية، فأعطى أم كجة الثمن والبنات الثلثين والباقي لابني العم «ورواه الطبري من طريق ابن جريج عن عكرمة على غير هذا السياق، ولفظه‏:‏» نزلت في أم كجة وابنة أم كجة وثعلبة وأوس بن سويد، وهم من الأنصار، كان أحدهما زوجها والآخر عم ولدها، فقالت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث، فقال عم ولدها‏:‏ إن ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلاًّ ولا ينكأ عدواً، فنزلت ‏{‏للرجال نصيب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏، وروي من طريق السدي، قال في قوله‏:‏ ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏ «كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان، ولا يورثون إلا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة يقال لها أم كجة، وترك خمس أخوات، فجاءت الورثة فأخذوا ماله، فشكت أم كجة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ‏{‏فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏ ثم قال في أم كجة ‏{‏ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 12‏]‏»‏.‏

فجميع هذه الروايات- كما ترى- ناطقة بأن سبب نزول آيات الميراث النساء، ويمكن أن يكون المجموع سبباً- والله أعلم؛ وذلك كما أن سبب إنزال الفرائض في التوراة كان النساء أيضاً، وذلك أنه جل أمره وعز اسمه وتعالى جده لما أمات من نكص عن أمره من بني إسرائيل ومن آلافهم في التيه وأخرج أبناءهم منه؛ أمر موسى عليه الصلاة والسلام بقسمة أرض الكنعانيين بين بنيهم بعد معرفة عددهم على منهاج ذكره، ولم يذكر البنات، وكان فيهم بنات لا أب لهن فسألن ميراث أبيهن، فأنزل الله حكمهن؛ قال في السفر الرابع من التوراة ما نصه‏:‏ ولما كان بعد الموت الفاشي قال الرب لموسى ولليعازر بن هارون الحبر‏:‏ احفظا عدد جماعة بني إسرائيل من ابن عشرين سنة إلى فوق، كل من خرج للمحاربة من بين بني إسرائيل فكلما الجماعة في عربات مؤاب التي عند أردن أريحا، وأخبراهم بقول الرب، ثم أحصياهم، فكان عددهم ستمائة ألف وسبعمائة وثلاثين رجلاً غير اللاويين سبط موسى فإنهم كانوا لحفظ قبة الزمان وخدمتها، وكانوا ثلاث قبائل‏:‏ أحدهم فغث فولد له عمران، وكان اسم امرأة عمران حنة ابنة لوى، ولدت له بأرض مصر هارون وموسى ومريم، وكان عددهم في هذا الوقت ثلاثة وعشرين ألفاً، كل ذكر منهم ابن شهر فما فوق، ولم يكن في هؤلاء ممن أحصاه موسى وهارون حيث عدا بني إسرائيل في برية سيناء، لأن الرب قال لهم‏:‏ يقتلون في هذه المفازة، ولا يبقى منهم رجل ما خلا كلاب بن يوفنا ويوشع بن نون، ودنا بنات صلفحد من قبيلة منشى بن يوسف وقلن‏:‏ أبونا توفي في البرية ولم يخلف ابناً، أعطنا ميراثنا، فرفع موسى أمرهن إلى الرب فقال الرب لموسى‏:‏ الحق قلن أعطهن ميراثاً مع أعمامهن ليتبين ميراث أبيهن وقلن لبني إسرائيل‏:‏ أي رجل مات ولم يخلف ابناً يعطى ميراثه ابنته وإن لم يكن له ابنة يعطى ميراثه إخوته ومن لم يكن له إخوة يعطى ميراثه أعمامه ومن لم يكن له أعمام يعطى ميراثه لمن كان قرابته من أهل عشيرته، وتكون هذه سنة لبني إسرائيل في أحكامهم كما أمر الرب موسى؛ وقال في السفر الثالث منها ما نصه سنة الخطايا التي إذا ارتكبها إنسان عوقب بالموت‏:‏ وكلم الرب موسى وقال له‏:‏ كلم بني إسرائيل، وقل لهم‏:‏ أنا الله ربكم‏!‏ لا تعملوا مثل أعمالكم أهل مصر التي سكنتموها، ولا تعملوا مثل أعمال أهل كنعان التي أدخلكم إليها ولا تسيروا سنتهم ولكن اعملوا بأحكامي، واحفظوا وصاياي، وسيروا بها، أنا الله ربكم‏!‏ احفظوا شرائعي وأحكامي‏.‏

لأن الذي يعمل بها يعيش، أنا الرب وليس إله غيري‏!‏ ولا يجسرن الرجل منكم أنيكشف عورة قرابته، أنا الرب وليس إله غيري‏!‏ ولا تكشفن عورة أبيك ولا عورة أمك، لأنها أمك، ولا تفضح امرأة ابنك ولا تكشف عورتها، لان عورتها عورة ابنك، ولا تفضح أختك من أبيك ومن أمك التي ولدت من أبيك، أو أختك من أمك لا من أبيك، لا تكشف عورتها، لأن فضيحتها فضيحتك، ولا تكشف عورة بنت امرأة أبيك التي ولدت من أبيك، لأنها أختك، ولا تكشف عورة عمتك لإنها أخت أبيك ولا تكشف عورة خالتك لأنها أخت أمك ولا تكشف عورة امرأة عمك ولا تدن من امرأته، لأنها امرأة عمك، ولا تكشف عورة كنتك، لأنها امرأة ابنك، ولا تكشف عورة امرأة أخيك، لأن فضيحتها فضيحة أخيك، ولا تكشف عورة امرأة وبنتها، أي لا تتزوج بهما، ولا تكشف عورة بنت الابن ولا بنت البنت، لأن فضيحتهما فضيحتك، ولا تكشف عورتهما، هن قرابتك وارتكابهن إثم، ولا تتزوج أخت امرأتك في حياتها فتحزنها، ولا تكشف عورتهما جميعاً في حياة امرأتك، والمرأة إذا حاضت وطمثت لا تدن لتكشف عورتها، ولا تسفح بامرأة صاحبك ولا تنجس، ولا تنجس اسم إلهك، أنا الله ربكم‏!‏ لا تضاجعن الذكر، ولا ترتكب من الذكر ما ترتكب من المرأة، لأنه فعل نجس، ولا بهيمة، ولا تلق زرعك فيها فتنجس بها، والمرأة أيضاً لا تقوم بين يدي بهيمة تطأها، لأنه فعل نجس، لا تنجسوا منها بشيء، فبهذه كلها تنجست الشعوب التي أهلكتها من بين أيديكم وتنجست أرضهم بفعلهم وعاقبتها بإثمها وتعطلت الأرض من سكانها لحال خطاياهم؛ احفظوا عهودي وأحكامي ولا ترتكبوا شيئاً من هذه الخطايا لأن أهل البلاد التي ترثونها فعلوا هذه الأفاعيل كلها وتنجست الأرض بهم، ولا تنجسوا الأرض لئلا تعطل منكم كما تعطلت من الشعوب التي كانوا يها قبلكم، لأن كل من يفعل هذه الخطايا يهلك؛ احفظوا شرائعي ولا ترتكبوا شيئاً من سير الخطايا التي فعلها من كان قبلكم، ولا تنجسوا بها، أنا الله ربكم‏!‏‏.‏

ثم كلم الرب موسى وقال له‏:‏ كلم جميع بني إسرائيل وقل لهم‏:‏ تقدسوا، لأني قدوس، أنا الله ربكم‏!‏ يهاب كل امرئ منكم والديه ويكرمهما، واحفظوا وصاياي، لأني أنا الله ربكم‏!‏ لا تقبلوا إلى الشيطان ولا تتخذوا آلهة مسبوكة، أنا الله ربكم وقال في السفر الثاني‏:‏ ولا تصدقن الخبر الكاذب، لا توالِ الخبيث لتكون له شاهد زور، ولا تتبعن هوى الكبير فتنسى، ولا تشايعن الكبراء الذين يحيفون في القضاء فتحيف معهم، ولا تعن المسكين على الظلم، لا تحيفن في فضاء المسكين وتباعد عن القول الكاذب‏.‏ وقال في السفر الخامس‏:‏ ودعا موسى بجميع بني إسرائيل وقال لهم‏:‏ اسمعوا يا بني إسرائيل السنن والأحكام التي أتلوا عليكم لتعلموها وتحفظوها وتعملوا بها، وتعلمون أن الله ربنا عاهدنا عهداً بأرض حوريب، ولم يعاهد الله آباءنا بهذا العهد، بل إنما عاهدنا، نحن الذين ها هنا أحياناً سالمين، وجهاً قبل وجه كلمنا الرب في النار عن الجبل، فأنا كنت قائماً بين يدي الرب وبينكم لأظهر لكم ذلك الزمان أقول الله ربكم، حيث فرقتم من النار ولم تصعدوا إلى الجبل، وقال الرب‏:‏ أنا الله ربكم الذي أخرجتكم من أرض مصر وخلصتكم من العبودية‏!‏ لا يكون لكم إله غيري، ولا تتخذوا أصناماً ولا أشباهاً، ولا تقسم باسم ربك كذباً، لأن الربّ لا يزكي من يحلف باسمه كذباً، احفظوا يوم السبت وطهروه- إلى أن قال؛ لا تعملوا فيه عملاً ليستريح عبيدكم وإماؤكم معكم، واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر فأخرجكم الله ربكم من هناك بيد منيعة وذراع عظيمة، لذلك أمركم ربكم أن تحفظوا يوم السبت، فيكرم كل امرئ منكم والديه كما أمركم الله ربكم لتطول أعماركم، وينعم عليكم في الأرض التي يعطيكم، لا تقتلوا، لا تزنوا، لا تسرقوا، لا يشتهين الرجل منكم امرأة صاحبه- إلى أن قال‏:‏ ولا شيئاً مما لصاحبك- هذه الآيات التي أمر بها الرب بني إسرائيل، وكلمهم بها في الجبل من النار بالسحاب والضباب بصوت عظيم لا يوصف ولا يحد، وهي التي كتبها على لوحي الحجارة ودفعها إلى موسى النبي- فما سمعتم صوتاً من الظلمة ورأيتم ناراً تشتعل في الجبل تقدم إليّ رؤساؤكم، وقالوا‏:‏ قد أرانا الله ربنا مجده وكرامته وعظمته، اليوم رأينا أن كلم الله الناس وعاشوا، إن عدنا نسمع صوت الله ربنا متنا، تقدم أنت واسمع ما يقول الله ربنا وقص علينا فسمع الرب صوت كلامكم حين كلمتموني وقال لي الرب‏:‏ قد سمعت صوت الشعب وما قالوا لك، نعم ما تكلموا به ويا ليت تكون لهم قلوب هكذا، فتكون تسمع وتطيع وتتقوى، ويفزعون من قولي، ويحفظون جميع وصاياي، كلها احفظوا، واعملوا بما أمركم الله ربكم ولا تحيدوا يمنة ولا يسرة، بل سيروا في كل الطريق الذي أمركم ربكم لتعيشوا، وينعم عليكم، وتطول مدتكم في الأرض التي ترثون- هذه السنن والوصايا والأحكام التي أمرني الله ربكم أن أعلمكم لتعلموا وتتقوا الله ربكم أنتم وبنوكم كل أيام حياتكم فتطول أعماركم، اسمعوا يا بني إسرائيل‏!‏ الله ربنا واحد، أحبوا الله ربكم في كل قلوبكم، ولتكن هذه الآيات التي أمركم في قلوبكم أبداً، وعلموها بنيكم، وتكلموا بها إذا حضرتم في منازلكم، وإذا سافرتم، وإذا رقدتم، وإذا قمتم، وشدوها علامة على أيديكم، ويكون ميسماً بين أعينكم، واكتبوها على قوائم بيوتكم وعلى أبوابكم، ولا تنسوا الله ربكم، وإياه فاعبدوا وباسمه فأقسموا، ولا تتبعوا الآلهة الأخرى التي تعبدها الشعوب التي حولكم، لأن الله ربكم الحالّ فيكم هو إله غيور فاتقوه، لا يشتد غضبه عليكم، ويهلككم عن حديد الأرض، ولا تجربوا الله ربكم كما جربتموه بالبلايا، ولكن احفظوا وصية الله ربكم وشهادته وسنته التي أمركم بها، فاعملوا الحسنات، وأنصفوا واعدلوا لينعم عليكم، وتدخلوا وترثوا الأرض المخصبة التي أقسم الله لآبائكم، ويكسر جميع أعدائكم ويهزمهم قدامكم كما قال الرب، فإذا سألكم بنوكم غداً وقالوا‏:‏ ما الشهادة والسنة والحكومة التي أمركم الله بها‏؟‏ قولوا لبنيكم‏:‏ إنا كنا عبيداً لفرعون بأرض مصر، وأخرجنا الرب من أرض مصر بيد منيعة، وأنزل بأهل مصر بلاء شديداً، وفعل ذلك بفرعون وجميع أهل بيته تجاهنا، وأخرجنا الرب من هناك ليدخلنا ويعطينا الأرض التي أقسم لآبائنا، وأمرنا الرب أن نعمل هذه السنن كلها، وأن نتقي الله ربنا لينعم كل أيامنا، ويحيينا بالخير والنعم، ويكون ربنا بنا براً إذا حفظنا هذه الوصية كلها، وعلمناها أمام الله ربنا كما أمرنا‏.‏

وقال في السفر الخامس‏:‏ ولا تكف يدك عن العطاء والصدقة على أخيك المسكين، ولكن يصدق بعضكم على بعض، ويعطي بعضكم بعضاً، ولا يضيق قلبك، ولا تحزن إذا صدقت على أخيك، لأنك إذا فعلت هذا القول وأوسعت على أخيك يبارك الله لك في جميع أعمالك، وفي كل ما تمد يدك إليه، من أجل أن الأرض لا تعدم المساكين، فلذلك آمرك- والعزم إليك- أن تمد يدك إلى أخيك المسكين، وتصدق على الفقير في الأرض‏.‏ وقال فيه‏:‏ أنصفوا بين إخوتكم وأحكموا بالحق ولا تحيفوا في القضاء، واسمعوا من الصغير كما تسمعون من الكبير، ولا تهابوا الرجل ولو عظم شأنه وكثرت أمواله، لأن القضاء لله‏.‏

وقال فيه‏:‏ صيروا لكم قضاة وكتاباً في جميع قراكم، وتقضون للشعب قضاء العدل والبر، ولا تحيفن في القضاء، ولا تحابوا ولا ترتشوا، لأن الرشوة تعمي أعين الحكام في القضاء، ولكن أقضي بالحق لتعيشوا وتبقوا وترثوا الأرض التي يعطيكم الله ربكم- فقد علم من هذا أصول غالب ما ذكره تعالى في هذه السورة مع ما تقدم من أشكاله في البقرة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 83‏]‏ وغيرها من الآيات، وفي آل عمران أيضاً، وأما حد الزاني وأمر القتل والجراح فسيذكر إن شاء الله تعالى في المائدة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 33‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ‏(‏27‏)‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ‏(‏28‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏29‏)‏ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏32‏)‏ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

ولما قرر سبحانه وتعالى إرادته لصلاحهم ورغب في اتباع الهدى بعلمه وحكمته عطف على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ بلطف منه وعظم سلطانه ‏{‏يريد‏}‏ إي بإنزاله هذا الكتاب العظيم وإرساله هذا الرسول الكريم ‏{‏أن يتوب عليكم‏}‏ أي يرجع لكم بالبيان الشافي عما كنتم عليه من طرق الضلال لما كنتم فيه من العمى بالجهل، وزادهم في ذلك رغبة بقوله‏:‏ ‏{‏ويريد الذين يتبعون‏}‏ أي على سبيل المبالغة والاستمرار ‏{‏الشهوات‏}‏ أي من أهل الكتابين وغيرهم كشاش بن قيس وغيره من الأعداء ‏{‏أن تميلوا‏}‏ أي عن سبيل الرشاد ‏{‏ميلاً عظيماً *‏}‏ أي إلى أن تصيروا إلى ما كنتم فيه من الشرك والضلال، فقد أبلغ سبحانه في الحمل على الهدى بموافقة الولي المنعم الجليل الذي لا تلحقه شائبة نقص، ومخالفة العدو الحسود الجاهل النازل من أوج العقل إلى حضيض طباع البهائم‏.‏

ولما كان الميل متعباً لمرتكبه أخبرهم أن علة بيانه للهداية وإرادته التوبة الرفق بهم فقال‏:‏ ‏{‏يريد الله‏}‏ أي وهو الذي له الجلال والجمال وجميع العظمة والكمال ‏{‏أن يخفف عنكم‏}‏ أي يفعل في هذا البيان وهذه الأحكام فعل من يريد ذلك، فيضع عنكم الآصار التي كانت على من كان قبلكم الحاملة على الميل، ويرخص لكم في بعض الأشياء كنكاح الأمة- على ما تقدم، ودل على علة ذلك بالواو العاطفة؛ لأنكم خلقتم ضعفاء يشق عليكم الثقل ‏{‏وخلق الإنسان‏}‏ أي الذي أنتم بعضه ‏{‏ضعيفاً *‏}‏ مبناه الحاجة، فهو لا يصبر عن النكاح ولا غيره من الشهوات، ولا يقوى على فعل شيء إلا بتأييد منه سبحانه‏.‏

ولما كان غالب ما مضى مبنياً على الأموال تارة بالإرث، وتارة بالجعل في النكاح، حلالاً أو حراماً؛ قال تعالى- إنتاجاً مما مضى بعد أن بين الحق من الباطل وبين ضعف هذا النوع كله، فبطل تعليلهم لمنع النساء والصغار من الإرث بالضعف، وبعد أن بين كيفية الترصف في أمر النكاح بالأموال وغيرها حفظاً للأنساب، ذاكراً كيفية التصرف في الأموال، تطهيراً للإنسان، مخاطباً لأدنى الأسنان في الإيمان، ترفيعاً لغيرهم عن مثل هذا الشأن‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان والتزام الأحكام‏.‏

ولما كان الأكل أعظم المقاصد بالمال، وكان العرب يرون التهافت على الأكل أعظم العار وإن كان حلالاً؛ كنى به التناول فقال‏:‏ ‏{‏لا تأكلوا‏}‏ أي تتناولو ‏{‏أموالكم‏}‏ أي الأموال التي جعلها الله قياماً للناس ‏{‏بينكم بالباطل‏}‏ أي من التسبب فيها بأخذ نصيب النساء والصغار من الإرث، وبعضل بعض النساء وغير ذلك مما تقدم النهي عنه وغيره‏.‏

ولما نهى عن الأكل بالباطل، استدرك ما ليس كذلك فقال‏:‏ ‏{‏إلا أن تكون‏}‏ أي المعاملة المدارة المتداولة بينكم ‏{‏تجارة‏}‏ هذا في قراءة الكوفيين بالنصب، وعلى قراءة غيرهم‏:‏ إلا أن توجد تجارة كائنة ‏{‏عن تراض منكم‏}‏ أي غير منهي عنه من الشارع، ولعل الإتيان بأداة الاستثناء المتصل- والمعنى على المنقطع- للإشارة إلى أن تصرفات الدنيا كلها جديرة بأن يجري عليها اسم الباطل ولو لم يكن إلا معنياً بها تزهيداً فيها وصدّاً عن الاستكثار منها، وترغيباً فيما يدوم نفعه ببقائه، وهكذا كل استثناء منقطع في القرآن، من تأمله حق التأمل وجد للعدول عن الحرف الموضوع له- «وهو لكن»- إلى صورة الاستثناء حكمة بالغة- والله الموفق‏.‏

ولما كان المال عديل الروح ونهى عن إتلافه بالباطل، نهى عن إتلاف النفس، لكون أكثر إتلافهم لها بالغارات لنهب الأموال وما كان بسببها وتسبيبها على أن من أكل ماله ثارت نفسه فأدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل، فكان النهي عن ذلك أنسب شيء لما بنيت عليه السورة من التعاطف والتواصل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ أي حقيقة بأن يباشر الإنسان قتل نفسه، أو مجازاً بأن يقتل بعضكم بعضاً، فإن الأنفس واحدة، وذلك أيضاً يؤدي إلى قتل نفس القاتل، فلا تغفلوا عن حظ أنفسكم من الشكر فمن غفل عن حظها فكأنما مثلها، ثم علله بما يلين أقسى الناس فقال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي مع ما له من صفات العظمة التي لا تدانيها عظمة ‏{‏كان بكم‏}‏ أي خاصة حيث خفف عليكم ما شدده على من كان قبلكم ‏{‏رحيماً *‏}‏ أي بليغ الرحمة حيث يسر لكم الطاعة ووفقكم لها فأبلغ سبحانه الترغيب في الامتثال؛ ثم قال ترهيباً من مواقعة الضلال‏:‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك‏}‏ أي المنهي عنه من القتل وغيره العظيم الإبعاد عن حضرات الإله ‏{‏عدواناً وظلماً‏}‏ أي بغير حق، وعطفه للوصف بالواو يدل على تناهي كل منهما، هذا مع ما أفهمه صفة الفعلان من المبالغة، فكان المراد العدو الشديد المفرط المتجاوز للحدود الناشيء عن العهد وتناهي الظلم الذي لا شائبة فيه للحق ‏{‏فسوف نصليه ناراً‏}‏ أي ندخله إياها بوعيد لا خلف فيه وإن طال إمهاله ‏{‏وكان ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم الذي توعد به ‏{‏على الله‏}‏ أي الذي له الجلال والجمال ‏{‏يسيراً *‏}‏ أي لأنه لا ينقصه من مكله شيئاً، ولا يمنع منه مانع‏.‏

ولما بين تعالى ما لفاعل ذلك تحذيراً، وكان قد تقدم جملة من الكبائر، أتبعه ما للمنتهي تبشيراً جواباً لمن كأنه قال‏:‏ هذا للفاعل فما للمجتنب‏؟‏ فقال على وجه عام‏:‏ ‏{‏إن تجتنبوا‏}‏ أي تجهدوا أنفسكم بالقصد الصالح في أن تتركوا تركاً عظيماً وتباعدوا ‏{‏كبائر ما تنهون عنه‏}‏ أي من أكل المال والقتل بالباطل والزنى وغير ذلك مما تقدم روى البزار- قال الهيثمي‏:‏ ورجاله رجال الصحيح- عن عبد الله- يعني ابن مسعود- أنه سئل عن الكبائر فقال‏:‏ ما بين أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين قال الأصبهاني‏:‏ وكل ذنب عظم الشرع الوعيد عليه بالعذاب وشدده، أو عظم ضرره في الخمس الضرورية‏:‏ حفظ الدين والنفس والنسب والعقل والمال، فهو كبيرة، وما عداه صغيرة ‏{‏نكفر عنكم سيئاتكم‏}‏ أي التي هي دون الكبائر كلها، فإن ارتكبتم شيئاً من الكبائر وأتيتم بالمكفرات من الصلوات الخمس والجمعة وصوم رمضان والحج، أو فرطتم في شيء منها فمنَّ الله عليكم بأن أتاكم بالمرض؛ كفر ذلك المأتي به الصغائر، ولم يقاوم تلك الكبيرة فلم يكفر جميع السيئات، لعدم إتيانه على تلك الكبيرة ‏{‏وندخلكم مدخلاً كريماً *‏}‏ أي يجمع الشرف والعمل والجود وكل معنى حسن، ومن فاته جميع ذلك لم يكفر عنه سيئاته، ولم يدخله هذا المدخل، ويكفي في انتفائه حصول القصاص في وقت ما؛ وقال الإمام أحمد‏:‏ المسلمون كلهم في الجنة- لهذه الآية وقول النبي صلى الله عليه وسلم

«ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» فالله تعالى يغفر ما دون الكبائر، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في الكبائر، فأي ذنب على المسلمين‏!‏ ذكره عنه الأصبهاني، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما عن أنس رضي الله عنه‏.‏

ولما نهى عن القتل وعن الأكل بالباطل بالفعل وهما من أعمال الجوارح، ليصير الظاهر طاهراً عن المعاصي الوخيمة؛ نهى عن التمني الذي هو مقدمة الأكل، ليكون نهياً عن الأكل بطريق الأولى، فإن التمني قد يكون حسداً، وهو المنهي عنه هنا كما هو ظاهر الآية‏:‏ وهو حرام والرضى بالحرام، والتمني على هذا الوجه يجر إلى الأكل والأكل يعود إلى القتل، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، والنهي هنا للتحريم عند أكثر العلماء فقال‏:‏ ‏{‏ولا تتمنوا‏}‏ أي تتابعوا أنفسكم في ذلك ‏{‏ما فضل الله‏}‏ أي الذي له العظمة كلها، فلا ينقصه شيء ‏{‏به‏}‏ اي من المال وغيره ‏{‏بعضكم عن بعض‏}‏ أي في الإرث وغيره من جميع الفضائل النفسانية المتعلقة بالقوة النظرية كالذكاء التام والحدس الكامل وزيادة المعارف بالكمية والكيفية، أو بالقوة العملية كالعفة التي هي وسط بين الجمود والفجور، والشجاعة التي هي وسط بين التهور والجبن، والسخاء الذي هو وسط بين الإسراف والبخل، وكاستعمال هذه القوى على الوجه الذي ينبغي وهو العدالة، أو الفضائل البدنية كالصحة والجمال والعمر الطويل مع اللذة والبهجة، أو الفضائل الخارجية مثل كثرة الأولاد الصلحاء، وكثرة العشائر والأصدقاء والأعوان، والرئاسة التامة ونفاذ القول، وكونه محبوباً للناس حسن الذكر فيهم؛ فهذه مجامع السعادات وبعضها نظرية لا مدخل للكسب فيها، وبعضها كسبية، ومتى تأمل العاقل في ذلك وجده محض عطاء من الله، فمن شاهد غيره أرفع منه في شيء من هذه الأحوال تألم قلبه وكانت له حالتان‏:‏ إحداهما أن يتمنى حصول مثل تلك السعادة له، والأخرى أن يتمنى زوالها عن صاحبها وهذا هو الحسد المذموم، لأنه كالاعتراض على الله الذي قسم هذه القسمة، فإن اعتقد أنه أحق منه فقد فتح على نفسه باب الكفر، واستجلب ظلمات البدعة، ومحا نور الإيمان، فإن الله فعال لما يريد، لا يسأل عما يفعل فلا اعتراض عليه، وكما أن الحسد سبب الفساد في الدين فهو سبب الفساد في الدنيا؛ فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له علماً بأن ذلك مصلحة، ولو كان غير ذلك فسد، فإن ذلك كله قسمة من الله صادرة عن حكمه وتدبيره وعلمه بأحوال العباد فيما يصلحهم ويفسدهم‏.‏

وأما تمني المثل فإن كان دينياً كان حسناً، كما قال صلى الله عليه وسلم «لا حسد إلا في اثنتين» وإن كان دنيوياً فمن الناس من جوز ذلك، ومنهم من قال- وهم المحققون‏:‏ لا يجوز ذلك، لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ومضرة في الدنيا كقصة قارون- قال معنى ذلك الإمام الرازي‏.‏

ولما نهى سبحانه عن ذلك علله بما ينبه على السعي في الاسترزاق والإجمال في الطلب، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن شداد بن أوس رضي الله عنه «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله» وكما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت كان كذا وكذا‏.‏ ولكن قل‏:‏ قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» فقال مشيراً إلى أنه لا ينال أحد جميع ما يؤمل‏:‏ ‏{‏للرجال نصيب‏}‏ أي قد فرغ من تقديره فهو بحيث لا يزيد ولا ينقص، وبين سبحانه أنه ينبغي الطلب والعمل، كما أشار إليه الحديث فقال‏:‏ ‏{‏مما اكتسبوا‏}‏ أي كلفوا أنفسهم وأتعبوها في كسبه من أمور الدارين من الثواب وأسبابه من الطاعات ومن الميراث والسعي في المكاسب والأرباح «جعل رزقي تحت ظل رمحي» «لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً» ‏{‏وللنساء نصيب مما اكتسبن‏}‏ أي وكذلك فالتمني حينئذ غير نافع، فالاشتغال به مجرد عناء‏.‏

ولما أشار بالتبعيض إلى أن الحصول بتقديره، لا بالكسب الذي جعله سبباً، فإنه تارة ينجحه وتارة يخيبه، فكان التقدير‏:‏ فاكتسبوا ولا تعجزوا فتطلبوا بالتمني؛ أمر بالإقبال- في الغنى وكل شيء- عليه إشارة إلى تحريك السبب مع الإجمال في الطلب فقال‏:‏ ‏{‏وسئلوا الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال‏.‏

ولما كان سبحانه تعالى عظمته لا ينقصه شيء وإن جل قال‏:‏ ‏{‏من فضله‏}‏ أي من خزائنه التي لا تنفد ولا يقضيها شيء، وفي ذلك تنبيه على عدم التعيين، لأنه ربما كان سبب الفساد، بل يكون الطلب لما هو له صلاح، وأحسن الدعاء المأثور، وأحسنه ‏{‏ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 201‏]‏ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي بيده مقاليد كل شيء ‏{‏كان بكل شيء عليماً *‏}‏ أي فكان على كل شيء قديراً، فإن كمال العلم يستلزم شمول القدرة- كما سيبين إن شاء الله تعالى في سورة طه، والمعنى أنه قد فعل بعلمه ما يصلحكم فاسألوه بعلمه وقدرته ما ينفعكم، فإنه يعلم ما يصلح كل عبد وما يفسده‏.‏ وعطف على ذلك ما هو من جملة لعلة فقال‏:‏ ‏{‏ولكل‏}‏ أي من القبيلتين صغاراً كانوا أو كباراً ‏{‏جعلنا‏}‏ بعظمتنا التي لا تضاهى ‏{‏موالي‏}‏ أي حكمنا بأنهم هم الأولياء، أي الأنصار، والأقرباء لأجل الإرث، هم الذين يلون المال ويرثونه، سواء كانوا عصبة خاصة وهم الوراث، أو عصبة عامة وهم المسلمون‏.‏

ولما كان الاهتمام بتوريث الصغار أكثر قال‏:‏ ‏{‏مما‏}‏ أي من أجل ما ‏{‏ترك‏}‏ أي خلفه ‏{‏الوالدان‏}‏ أي لكم، ثم أتبع ذلك ما يشمل حقي الأصل والفرع فقال‏:‏ ‏{‏والأقربون‏}‏ أي إليكم، ثم عطف على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏والذين‏}‏ أي وما ترك الذين ‏{‏عقدت أيمانكم‏}‏ أي مما تركه من تدلون إليه بنسب أو سبب بالحلف أو الولاء أو الصهر، وذكر اليمين لأن العهد يكون مع المصافحة بها، ثم سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فآتوهم‏}‏ أي الموالي وإن كانوا صغاراً أو إناثاً على ما بينت لكم في آية المواريث السابقة، واتركوا كل ما خالف ذلك فقد نسخ بها ‏{‏نصيبهم‏}‏ أي الذي فرضناه لهم من الإرث موافراً غير منقوص، ولا تظنوا أن غيرهم أولى منهم أو مساوٍ لهم، ثم رهب من المخالفة، وأكد الأمر وعداً ووعيداً بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال ‏{‏كان على كل شيء شهيداً *‏}‏ أي فهو يعلم الولي من غيره والخائن من غيره وإن اجتهد في الإخفاء، لأنه لا يخفى عليه شيء، لأنه لا يغيب شيء ولا يغيب عنه شيء، فالمعنى‏:‏ إنا لم نفعل سوى ما قصدتم من إعطاء المال لمن يحمي الذمار ويذب عن الحوزة، وأنتم كنتم غير منزليه حق منازله لغيبتكم عن حقائق الأمور وغيبتها عنكم، فإنا لم نخرج شيئاً منه لغير الموالي- أي الأنصار- إما بالقرابة أو بالمعاقدة بالولاء أو المصاهرة، فالحاصل أنه لمن يحمي بالفعل، أو بالقوة القريبة منه، أو البعيدة الآئلة إلى القرب، وأما التفضيل في الأنصباء فأمر استأثرنا بعلم مستحقيه، وفي البخاري في التفسير عن ابن عباس‏:‏ «موالي‏:‏ ورثة والذين عاقدت أيمانكم كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجرين الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت ‏{‏ولكل جعلنا موالي‏}‏ نسخت، ثم قال‏:‏ ‏{‏والذي عاقدت أيمانكم‏}‏ من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث، ويوصي له»‏.‏